"إهمال العشائر" يؤجج الأزمة السياسية والاقتصادية في الأردن

عمان - أثار التصعيد الأمني ضد تجمع قبلي مؤيد لنائب مستقيل في الأردن مخاوف من مواجهة مفتوحة بين السلطات والعشائر، في تصعيد اجتماعي وسياسي على خلفية الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد.
واندلعت مواجهات ليلة السبت هي الثانية خلال أسبوع في ناعور غرب عمّان بين قوات الأمن ومؤيدين للنائب أسامة العجارمة الذي كان وجّه قبل ساعات اتهاما مباشرا لأحد أبناء عمومة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني باستعداء العشائر.
وتنامت شكاوى العشائر من التهميش، إلى جانب أنها تعتبر نفسها ضحية الوضع الاقتصادي الصعب والجمود السياسي المزمن في الأردن.
وشغل الحديث عن “إهمال العشائر” حيزا واسعا من النقاش العام منذ أن تعرضت أجهزة الحكم قبل شهرين لانتقادات حادة على لسان ولي العهد السابق الأمير حمزة الذي يتمتع بشعبية في أوساط العشائر، وتحولت قضية العجارمة بسرعة إلى بؤرة الاستقطاب الرئيسية في البلاد.
ومنذ ذلك الحين ظل الملك عبدالله الثاني وكبار المسؤولين بحاجة إلى تأكيد اهتمامهم بالعشائر والإشادة بدورها في تأسيس الدولة، وقد زادت وتيرة هذه الإشادة خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس الدولة الأردنية الحديثة.
لكن أحداث ناعور تبدو متناقضة مع الخطاب المعلن، وتعاملُ السلطات مع التجمع القبلي أقرب إلى الحل الأمني البحت.
ويقود التحرك النائب المستقيل أسامة العجارمة الذي يوصف بالشعبوي، وهو ضابط متقاعد من الجيش واعتاد أن يظهر بمسدس أو سيف وسط مؤيديه.
وجمّد البرلمان الأردني عضوية العجارمة عندما قدم استقالته بعد تلاسن داخل البرلمان على خلفية انقطاع شامل للتيار الكهربائي في الأردن. ثم صوت لاحقا على فصله، على خلفية ما اعتبره تصريحات “مسيئة” للملك والمجتمع، بناء على مذكرة وقعها 109 أعضاء (من أصل 130).
وشدد رئيس مجلس النواب عبدالمنعم العودات على رفض المجلس لأي مساس بمكانة العاهل الأردني، مضيفا أن ما صدر عن العجارمة من تصريحات مدان وغير مقبول.
وأعلن العودات في مستهل جلسة النواب الطارئة “رفض المجلس ووقوفه بحزم في وجه أي مساس بمكانة ومنزلة جلالة الملك، وأي مساس بنظامنا الاجتماعي وتوافقنا العشائري والعائلي، وسلمنا الاجتماعي الذي يشكل أساس أمن واستقرار بلدنا الأردن العزيز الشامخ الأصيل”.
وتجددت المواجهات بين قوات الأمن الأردني ومؤيدي العجارمة الأحد، في منطقة لواء ناعور غربي العاصمة عمان، عقب قرار مجلس النواب الذي قضى بفصله، وقُبيل إقامة فعالية مؤيدة له.
ونقلت حسابات على فيسبوك مشاهد حية تظهر إطلاق قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع على متجمعين، فيما سُمع صوت إطلاق عيارات نارية.
وذكر تلفزيون “المملكة” الرسمي أن “قوات الأمن تتعامل مع أعمال شغب وإطلاق نار من طرف مجموعة من أشخاص في لواء ناعور”.
ورغم أن قضية العجارمة تمثل مسألة داخل البرلمان إلا أن تصريحاته الأخيرة في فيديو متداول على مواقع التواصل تلخص ما تحتج عليه العشائر عموما من تهميش تنموي في مناطقها ومحافظات الأطراف بسبب السياسات التي تقودها مجموعة مقربة من الملك عبدالله الثاني منذ توليه الحكم في 1999.
وقال العجارمة في مقطع الفيديو إن الأمير راشد بن الحسن، وهو أحد الأمراء المقربين من الملك، “أمر” بهدم خيام التجمع العشائري في ناعور الأسبوع الماضي. وطلب النائب بنبرة حادة من الأمير أن يسأل والده ولي العهد الأسبق الأمير الحسن بن طلال عن “حقيقة العشائر”.
وعزا المعلق السياسي الأردني المقيم في بروكسيل مالك العثامنة تشكيل فراغ سياسي هائل في المشهد الأردني برمته إلى غياب الدولة بمفهومها المؤسساتي وحضورها الدستوري.
وقال العثامنة، في تصريح لـ”العرب”، “هذا الفراغ المترافق مع غياب الدولة واضمحلال وجود المؤسسات فيها وانكفاء السلطة إلى الخلف مضطلعة بدور الرعاية فقط، كل هذا أدى إلى استنبات غير صحي لمراكز قوى ومصالح متصارعة ومتنافسة طوال سنوات، وتوازى ذلك مع معدلات فقر متزايدة واقتصاد يواجه أفقا مسدودا بعجزه المستمر والمتراكم بأرقام لا تكذب، مقابل تصريحات تكذب دوما”.
وأشار إلى أن المشهد السياسي الأردني “مشهد فانتازي يخرج فيه شخص حصل على لقب نائب برلماني من خلال قانون قاصر أصلا، وظروف انتخابية كسيحة أفرزت مجلس نواب ليس أفضل حالا من النائب نفسه، لندخل في حوار الطرشان الذي لا ينتهي، وبطولة دونكيشوتية بالمجان قدمتها السلطة ‘الراعية’ بغياب الدولة الدستورية عنها لنصل اليوم إلى تعاطٍ أمني بحت تنتج عنه فقط نتيجة واحدة لا غير: بؤس جمعي مقهور يبحث عن بطولات فانتازية غير معقولة تميل إلى التطرف في البحث عن حلول بعد أن وصلها اليأس من المنطق ‘السائد'”.
وأظهرت أحداث ناعور شدة أمنية في وقت يؤكد فيه مراقبون أن الأردن يحتاج إلى الهدوء لإنعاش الاقتصاد الضعيف والاستجابة لمطالب الإصلاح السياسي، إلى جانب التعامل مع العشائر التي تعتبر أحد مرتكزات النظام الملكي الحاكم منذ مئة عام.
ويبدو الملك عبدالله أمام خيارات محدودة بسبب الوضع الاقتصادي الخانق الذي يواجهه الأردن مع تراجع تحويلات الأردنيين من الخليج وتسريح الآلاف منهم وعودتهم، في حين حاصر وباء كورونا مناحي اقتصادية مهمة في الأردن وأوقف موسمين سياحيين متعاقبين بسبب إجراءات الحجر التي اتخذتها الحكومة الأردنية.
وأشار العثامنة إلى أن ما يحدث هو “تحصيل حاصل طبيعي لتغييب دولة المؤسسات والقانون طوال عقدين. فما نراه اليوم من مشاهد انكفاء للخلف نحو الخطاب العشائري يبدو منطقيا لجموع وجدت في الخطاب متنفسا لقهرها، لكنها بالتأكيد لن تجد حلا فيه. الدولة بمؤسساتها وقوانينها هي الحل فقط”.
وزادت أهمية المدن الكبرى في الأردن منذ بداية عهد الملك عبدالله على حساب الأطراف التي تشكو تهميشًا من ناحية توفير الخدمات والوظائف. ولم تتحرك حكومات أردنية متعاقبة لتعالج الخلل في بلد يعاني أصلا من محدوديّة الموارد ويواجه تهميشا إقليميا من دول الخليج وتراجعا في العلاقة التجارية مع أهم شريكيْن تجاريَّيْن هما العراق وسوريا.
ورغم أن التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي وحرب غزة قد خففا التوتر مع العشائر لبعض الوقت في أعقاب الكشف عما وصفته السلطات بـ”الفتنة”، إلا أن الأمور عادت إلى التصعيد كما بينت أحداث الاحتجاج في ناعور ومحاولات العشائر قطع الطريق إلى مطار عالية الدولي في مسعى للفت الأنظار.
وشددت بيانات من مجلس الوزراء ووزارة الداخلية على أن السلطات ستتعامل مع المحتجين بكل صرامة، وقالت إن إصابات وقعت بين أفراد أجهزة الأمن مساء السبت بعد مواجهات مع موالين للعجارمة.
ورفض الصحافي الأردني موسى حوامدة تحميل النائب العجارمة مسؤولية ما حدث؛ “فمن الطبيعي أن يلجأ المواطن -سواء كان نائبا أو وزيرًا أو مواطنًا عاديًا- إلى عشيرته حين يشعر بالظلم، ولأن تركيبة مجلس النواب لم تتحقق من نمط ديمقراطي يؤمن بالمواطنة وأن الدولة هي ملك للمواطن وليست ملكًا وتابعا للعشيرة. لكن أعتقد أن ضيق صدر رئيس مجلس النواب وحتى مسؤولي الأجهزة المختلفة عن سماع رأي معارض جعلهم لا يستوعبون هذا الغضب الجماهيري”.
وقال حوامدة في تصريح لـ”العرب” لقد “تم تكريس قانون انتخابات مدروس ومحدد لكي يفرز نواب عشائر وليس نواب وطن، فيما تم تضييق الخناق على الأحزاب السياسية حتى المعترف بها رسميا، وتم تفتيتها وشرذمتها وإضعافها، حتى سيطر النظام العشائري على مفاصل الدولة والتعليم والقضاء وكل مناحي الحياة، وكان لا بد أن تأتي محاولات إعلاء شأن العشيرة على الدولة، فما زلنا نعود إلى العشيرة ولا نعترف بالدولة”.
وعبر عن اعتقاده أن “الدولة لجأت إلى أسلوب القوة الخشن مباشرة، وبدأ الحديث عن أهمية الدولة وعن ضرورة الولاء لها وليس للعشيرة، هذا يعني أننا نتحدث متى شئنا عن الدولة والولاء لها، ونعود إلى العشيرة إن كان ذلك يخدمنا”.
وأضاف حوامدة “هناك مشكلة عميقة في بنية النظام الأردني؛ فهو لا يزال مرتبكًا ولم يحدد بوصلته باتجاه العشائرية أو المواطنة، وبات من الضروري طرح هذه المسألة بصراحة لأن صواعق الانفجار صارت سهلة وتكرر الأمر أكثر من مرة، وصار من الضروري أن تتمّ إعادة تأسيس خطاب الدولة وفق نمط جديد، نمط يُعلي المواطنة ويلغي العشائرية والجهوية كتركيبة سياسية ستكون من معيقات الإصلاح السياسي الذي نسمع به ولم يتحقق”.