"امرأة في النافذة" دراما نفسية تختلط بالجريمة والعنف

عندما يتمكن المشاهد من فك لغز فعل شخصية غامضة على الشاشة، ويظن أنه قد أحاط بكل ما في داخلها، ثم يفاجأ أنه لم يتفاعل إلا مع الظاهر منها، بينما المخفي والغامض هو أعمق وأبعد، عندها سوف يدرك أنه أمام دراما فيلمية مصنوعة بعناية وإتقان ومعايير إبداعية رصينة كما هو حال فيلم “امرأة في النافذة”.
يمكن أن تخرج بانطباع أولي حول خطأ تخميناتك وأنت تشاهد فيلم “امرأة في النافذة” للمخرج جو رايت والمأخوذ عن رواية الكاتب أي جي – فن هي الأكثر مبيعا في حينه، فالاشتغال الجريء على ما يمكن أن تسميه الشخصية الواحدة المحورية بما تخبئه من أسرار ذاتيه ومشاعر مضطربة كفيل بمنح المشاهد متعة اكتشاف متواصلة.
ذلك ما اشتغل عليه المخرج رايت مع كاتب السيناريو البارع تريسي ليتس الذي ظهر في هذا الفيلم ممثلا بوصفه الطبيب النفسي لامرأة تعيش في عزلة كاملة وهي آنا (الممثلة آمي آدمز) التي هي نفسها معالجة نفسية، تقدم استشاراتها للشباب والمراهقين الذين يعانون من مشاكل مع والديهم وعائلاتهم، ومن هنا يمكننا إدراك كثافة المادة النفسية التي سوف تجسدها أحداث هذا الفيلم.
لا أحد يصدقها

الفيلم دراما نفسية عميقة ومتشابكة وقد أجاد المخرج في الإمساك بخطوطها الرئيسية وتقديم قصة سينمائية مؤثرة
في البدء هنالك العزلة التامة التي تتماهى مع ما نعيشه من إغلاق كامل أو شبه كامل منذ زمن بسبب وباء كورونا ولكن هذه العزلة مختلفة تماما، فشخصية آنا المضطربة تجعلها منزوية لشهور لا تستطيع مواجهة الحياة في الخارج ولا تطيق الحديث مع الناس وكل شيء يرعبها في الأماكن الخارجية ولهذا لن تجد راحتها إلا في النظر إلى نوافذ الآخرين وفي بعض الأحيان تستخدم منظارا مكبّرا لكي تطّلع أكثر.
تشتبك على المشاهد كما على الشخصيات الأخرى وحتى على الشخصيات ما ترويه وما تعيشه آنا، فهي تشاهد جارها رجل الأعمال الناجح راسل (الممثل غاري أولدمان) يقتل زوجته كاتي (الممثلة جوليان مور) لكن لا أحد سوف يصدقها حتى نحن المشاهدين نتشكك في ذلك بسبب أنها امرأة تعاني من مشاكل نفسية، ولربما يكون للأدوية التي تتعاطاها مفعول يجعلها تتوهم وجود أشياء غير حقيقية.
ويضيء لنا كاتب السيناريو جانبا آخر من شخصية آنا المركّبة بادعاء أنها متزوجة ومطلقة وأنها تتواصل مع زوجها وابنتها بشكل مستمر، بينما تظهر لنا صور الذاكرة الحادث الذي قتل فيه الزوج والطفلة ليتركا آنا محطّمة، ولا تستطيع تصديق فكرة أن عائلتها قد ماتت، ولهذا تعيش في وهم التواصل معهم.
يكمل هذه المسارات السردية المتشعبة والمتشابكة والمحملة بغزارة تعبيرية نفسية وعاطفية عميقة علاقتها مع إيثان، الشاب المراهق المدمّر نفسيا والخاضع كليا لوالده رجل الأعمال والذي يساهم هو الآخر في عملية الإنكار بأن والدته ما تزال على قيد الحياة وأن ما تقوله آنا عار عن الصحة.
تعيش آنا في دوامة إضافية عميقة تفاقم عزلتها وبذلك كرس المخرج وكاتب السيناريو شخصية محورية إشكالية تدور في قوقعة مكانية مغلقة وفي نفس الوقت تعاني من شحن عاطفي وإنساني شديد بسبب يقينها أن هنالك غولا وقاتلا هو جارها راسل الذي يستطيع بسطوته السيطرة على مواقف الجميع وحشر آنا في زاوية لوحدها، إنها مجرد امرأة مريضة نفسيا خيالها وهلاوسها تذهب بها بعيدا إلى تخيلات لا وجود لها.
إيقاع متسارع
لتكتمل الدائرة التي من حولها يكون هنالك ديفيد (الممثلي وايت راسل)، الموسيقي، والمستأجر لجزء من منزلها الذي سنكتشف في ما بعد أنه خاضع لإفراج شرطي، وبذلك تلاحقه تهمة أنه قاتل كاتي، لاسيما وأنه يعترف أنها لجأت إليه في إحدى الليالي هاربة من عنف زوجها.
لكن ماذا لو تحوّل الشاب إيثان عن طريق سطوة والده إلى قاتل لا يتورع عن الانتقام من أي أحد وهو ما سوف يفعله بقتل ديفيد أولا ثم ملاحقة آنا ثانيا في مشاهد صراع مريرة من الصراع وقطع الأنفاس.
لا ينحصر الأمر في هذه الدراما شديدة الإتقان في بحثنا عن نهاية سعيد بل إلى فك الألغاز المتشابكة التي أحاطت بالشخصيات في وسط إحباطات آنا وعدم تفهّم أي أحد لها، ولهذا لا تملك وأنت تتابع كل ذلك إلا الشك مع المتشككين بأن ما يُعرَض من وجهة نظر آنا هو محض خيال وذلك ما سوف يتّضح مثلا في علاقتها مع زوجها وابنتها المبنية على مجرد تخيلات.
وعلى الرغم من محدودية المكان وأغلب المشاهد الفيلمية يتم تصويرها داخليا وفي الغالب في مسكن آنا، وكذلك تقع أهم الأحداث مثل لقاء آنا مع كاتي ومع الزوج والابن ورجال الشرطة إلا أن شعورا بالملل من الصعب أن يتسرب وأنت تشاهد تلك الدراما النفسية العميقة والمتشابكة والتي أجاد المخرج في الإمساك بخطوطها الرئيسية وتقديم قصة سينمائية مؤثرة.
واقعيا نحن أمام كثافة في الأحداث ذات طابع نفسي وعاطفي سريع التغيير في إيقاع فيلمي متسارع يرتبط بآن نفسها المتسرعة والتي لا تستطيع السيطرة على ردود أفعالها مما أوقعها في تلك المواجهة الحاسمة ضد راسل ولكي يدرك رجال الشرطة بعد حين أنه لم يكن إلا قاتلا محترفا وأن كما اتهمته به آن كان صحيحا.