المسرح التونسي الجديد يشبه نادي برشلونة

لا جدال في أن فرقة “المسرح الجديد” التونسية التي تأسست في سبعينات القرن الماضي مثلت أهم الحركات المسرحية المؤثرة في تونس والعالم العربي، لكن بعد عقود من التأسيس والتطور وانفراد كل عنصر من الفرقة بتجربته الخاصة والمختلفة، جاءت أجيال أخرى يرى كثيرون أنها تسير على نفس النهج دون قدرة على التغيير.
السؤال عن مستقبل المسرح التونسي ما بعد فرقة “المسرح الجديد” يشبه السؤال عن فريق برشلونة لكرة القدم ما بعد اللاعب الأرجنتيني المحترف ليونيل ميسي.
لنمض أبعد من ذلك في هذه “المقاربة الفرجوية”، فتاريخ نادي برشلونة الرياضي الذي يعود تأسيسه إلى العام 1899، ومن ثم تأكيد جدارته سنة 1920 كناد كاتالوني عريق في مقاومة حكم فرانكو بإسبانيا، ووصولا إلى التحاق ميسي به سنة 2000، يشبه إلى حد بعيد تجربة المسرح الجديد في المشهد المسرحي التونسي، والذي تأسس العام 1976 على يد الفاضل الجعايبي وجملة من رفاقه الذين أغنوا التجربة المسرحية التونسية العائد تاريخها إلى بدايات القرن الماضي.
المسرح الجديد
الإغناء والإضافة، هنا، خصلتان لا تعنيان التأسيس أو الريادة والاحتكار، فالتجربة التي تأسس عليها المسرح الجديد في تونس قامت على أنقاض ومنجزات سابقة كتجربة الرائد علي بن عياد، وأخرى موازية أو متزامنة أو حتى ملاحقة كـ”المسرح المثلث” لحبيب شبيل و”المسرح العضوي” لعزالدين قنون و”مسرح فو” لرجاء بن عمار، وغيرها من التجارب التي لا ينبغي أن تمر دون ذكر، وتحت عنوان مضلل هو “المسرح الجديد”.
حتى هذا المسرح الذي وقع التنظير له وإرفاقه بكم هائل من القراءات والتحليلات التي بلغت حد المبالغة والتضخيم، قد اختلف أصحابه ومؤسسوه فيما بينهم. وهذا أمر ممكن الحدوث بل يجب أن يحدث في مسرح تجريبي مازالت أيادي أصحابه في الطين، أي أنه يبحث عن صياغات وطرق تلائم المجتمع التونسي وتحاول التحدث باسمه.
ماذا تعني كلمة “جديد” في “المسرح الجديد”؟ إنها ببساطة تود الانفلات من كل القوالب التقليدية ذات الولاء للصيغ المكررة والمنبوذة من قبل العامة. لذلك جنح أصحاب هذه التجربة من ذوي العقيدة الماركسية في غالبيتهم إلى النسج على منوال معلّمهم برتولد بريخت (1898 ـ 1956) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
كان هذا الألماني الذي يعد الأبرز والأكثر ألقا ونجومية في القرن العشرين واحدا من الذين صنعوا الوعي الاجتماعي والثقافي لشعوب المنطقة، لذلك كان بمثابة الملهم لجماعة المسرح الجديد في تونس، والمنطقة العربية بشكل عام، بما فيها كتابات سعدالله ونوس في سوريا وسعد أردش في مصر وعبدالكريم برشيد في المغرب وعزالدين المدني في تونس.
المسرح الجديد في تونس لم يعد جديدا لقد صار تراثا يسر الناظر ويُنظر إليه بالكثير من الاعتراف والتقدير
أما ما ميز تجربة المسرح الجديد في تونس فهو الجنوح نحو خصوصية تونسية غاية في المحلية المحببة وليست المنفّرة، ذلك أنها تنهل من واقع شديد الثراء والإغراء لكونه ماكر الاطلاع على التجارب الأوروبية، والفرنسية
منها على وجه الخصوص، ثم أنه محمي الجانب من طرف حركات يسارية لها امتداداتها على الساحة المحلية آنذاك.
كان لتجربة المسرح الجديد في تونس مريدون ومقلدون كثيرون، أول بروزها في أواخر سبعينات القرن الماضي، وكان لمسرحيات “غسالة النوادر” و“التحقيق” و“العرس” الكثير من المتأثرين والناسجين على منوالها، لما تتمتع به الأخيرة من حس الطرافة والقرب من المجتمع التونسي.
تفرخت وتناسلت عن هذه التجربة أعمال كثيرة، لكن أصحابها -أنفسهم- انقسموا على بعضهم البعض، وتبين فيما بعد أن الجعايبي لا يشبه رفيقه الفاضل الجزيري الذي اتجه فيما بعد إلى “الميوزيكال” ولا إلى بقية رفاق دربه وأبناء جيله كمحمد إدريس ورؤوف بن عمر وتوفيق الجبالي ورجاء بن عمار والحبيب شبيل.
التحول إلى تراث

في الأثناء رفد المعهد العالي للفنون المسرحية بتونس العديد من الأسماء ذات البريق الساطع، وكذلك انضم ممثلون من القامات العالية في الفرق الهاوية إلى قافلة صناع الفن الرابع في تونس.
نشطت السينما، طفح الكيل وصار فن التمثيل في تونس يشبه كرة القدم في الأرجنتين وبرشلونة. وكان لا بد من المنافسة لمعرفة الأفضل.
هذا هو حال فن المسرح في تونس بعد تجاوز مرحلة ما بعد المسرح الجديد التي تلقفتها الدراما التلفزيونية عند انتعاشتها في السنوات الأخيرة. صار المسرحي الجيد هو ذو المستقبل التلفزيوني الواعد.
المسرح الجديد في تونس صار اليوم تراثا يسرّ الناظر ويُنظر إليه بالكثير من الاعتراف والتقدير، لكنه لا يعني شيئا سوى كونه تراثا، فكأنما هو تاريخ لاعب كرة قدم في حارات إحدى مدن الأرجنتين، وفقا للمقاربة التي بدأنا بها هذه السطور.
هل نضع جميع مسرحيي تونس في سلة واحدة؟ وهل مازالت تجربة المسرح الجديد تشبه فريق برشلونة في الكرة الإسبانية؟ أعتقد أن لا مجال للمقاربة الآن إلا من وجهة نظر أن المسرح التونسي يشبه الفوتبول الإسباني في عمومه، أما الفرق الخاصة فمحكومة باللاعبين الذين انضموا إليها، وسوف يغادرونها -بالتأكيد- لنواد أفضل منها.
الخصوصية المسرحية في تونس تنبع من كونها تشبه الناس، وتتغذى من ثقافة تقارب القرن من الزمان، ومؤازرة شعب تفرج أجداد أجداده على روائع مسرحية لم تكن لتتوفر لدى شعوب أخرى مجاورة أو تشاركه ذات اللغة والثقافة والعقيدة. المشكلة الآن في تونس لم تعد تقاس بمدى اقتراب المجتمع من المسرح أو الابتعاد عنه بل بأي الفنون أقرب إليه وأكثر تعبيرا عن حواسه. لم يعد المسرح الجديد “جديدا” عن هذا الشعب الذي يمارس المسرح على نفسه كل يوم كما يمارسه عليه الحكام والمتسلطون.
فرقة المسرح الجديد نجحت في جعل الفن الرابع ثقافة شعبية لكنها صنعت نجوميات لا يستفيد منها المسرح نفسه
التونسيون اليوم يمارسون أشد وأقسى أنواع المسرح على أنفسهم مستفيدين من ثقافة عمّرت لعشرات السنوات ثم اضمحلت وكأنها تترك مكانها لثقافة أخرى، إذ ليس غريبا هذه الأيام أن تجد تونسيا يتردد أمام قاعة مسرح ثم لا يدخلها لا لسبب يخص عنوان المسرحية أو صناعها، بل لقناعة منه أن ما يدور في ذهنه أهم مما سيدخل للتفرج عليه.
ليس هذا مبالغة وإنما شيء شاهدته بنفسي في صفوف جيل يعتقد أن ما سيشاهده قد عاشه ولن يزيد إليه علما أو غرابة.
المسرح التونسي اليوم، وأمام تهافت الفرق الخاصة على طلب الدعم الإنتاجي لمشاريع تقدمها من كل حدب وصوب، يشبه الرهانات الرياضية على فوز فريق دون معرفة مؤهلاته الفنية. لقد عدنا من جديد للمقاربة بين المسرح والفرق الرياضية.
صحيح أن المسرح التونسي -وتحديدا تجربة فرقة المسرح الجديد- نجح في جعل الفن الرابع ثقافة شعبية -كما الفوتبول في الأرجنتين والبرازيل- لكنه صنع “نجوميات” لا يستفيد منها المسرح نفسه بل فنون أخرى موازية كالتلفزيون وما ينجر عنه من دعايات، لذلك وجب التوقف عند فكرة مفادها أن فن المسرح تتربص به الآلة الإعلامية مثل أي تجربة تفتك بها العولمة.
الخصوصية الوحيدة التي نجح المسرح التونسي في إرسائها هي القدرة على التذكر، واعتبار الماضي ليس “ماضيا” بل طريقة للتداوي، والإضافة إلى فنون شقيقة وصديقة.