بشير أبازيد أشعل ثورة أم حربا أهلية في سوريا

شهد السوريون، ولا يزالون، أهوالا في خضم الصراع ببلادهم على مدار عقد من الزمن، ولم تفلح المؤسسات والهيئات الدولية في وقف ما يتعرضون له من كافة الأطراف، وخاصة النظام، في ظل غياب محاسبة المسؤولين عن ذلك. ونتيجة لما حصل أصيب اللاجئون الذين ساهموا في إطلاق شرارة الانتفاضة في عام 2011 بصدمة بالغة إثر وقوفهم على الثمن الإنساني الفادح، الذي دفعه الناس بعد أن تحولت الاحتجاجات السلمية إلى حرب أهلية مدمرة.
عمان- يبدو الثابت بعد كل سنوات الحرب، التي جعلت سوريا دولة مدمرة واقتصادها منهارا أن نظام بشار الأسد لم يسقط ولم تفلح الاحتجاجات، التي تفجرت في مارس 2011، في إحداث تغيير كان أغلب السوريين يمنون النفس بأنه سيحصل في وقت وجيز، لتتحول إلى حرب أهلية هي الأقسى.
وبعد أن تمكن النظام من استعادة مناطق واسعة من الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا والمتشددين الإسلاميين. وبدعم من الحليفتين إيران وروسيا، تواصل قوات الأسد معركتها لاستعادة آخر معقل للمعارضة في شمال غرب البلاد.
وفي ظل انقلاب الموازين، بات أشد المعارضين للنظام السوري مجبرين على التخلص من فكرة إسقاط الأسد، فهو ممسك بزمام الأمور في المناطق، التي تسيطر عليها قواته، ويسعى إلى ولاية رئاسية جديدة في الانتخابات المقررة بعد أسابيع، فقد خفتت جذوة أمانيهم ليتحولوا إلى التركيز على أن الأسد لن يستطيع أن يحكم كما كان في السابق.
عدم الاستسلام للواقع
يبدو أن الأسد أصبح في وضع آمن بعد أن ظل باقيا في الحكم رغم المعارضة المسلحة، التي شكلت في وقت من الأوقات أكثر التهديدات خطورة على حكم أسرته منذ أن خلف والده حافظ الأسد في الحكم قبل عقدين من الزمن.
لكن الكثير من السوريين وخاصة بمحافظة درعا مصرّون على الإطاحة به، فقد أحيوا الخميس الماضي الذكرى العاشرة للثورة في بادرة لإظهار استمرار التحدي للنظام عبر هتافهم بشعارات مناهضة للحكومة في شوارع الحي القديم من المدينة بعيدا عن أنظار قوات الأمن.
وثمة من يرى أن الأمور قد لا تسير كما كانوا يشتهون، فعندما اعتقل الصبي السوري بشير أبازيد قبل عقد لكتابته شعارات مناهضة للحكومة على جدران مدرسته، لم يكن يتخيل أبدا أن انتفاضة ستندلع وستفضي إلى تدمير بلاده، وهو محبط بسبب ما جرى.
ويروي أبازيد، الذي بلغ الآن الخامسة والعشرين من عمره، في حديثه مع رويترز من تركيا، التي يعيش فيها بعيدا عن مدينته درعا الواقعة في جنوب غرب سوريا قائلا “هذه الأحداث كسرت فينا أشياء كثيرة.. سلبت منا طفولتنا، سلبت منا الفرحة وسلبت منا السعادة. هذه الأحداث كبّرتنا قبل أواننا”.
وباتت درعا مهدا للانتفاضة وما أعقبها من تمرد مسلح ضد الأسد بعد أن جرى اعتقال أكثر من عشرين فتى من بينهم أبازيد وتعذيبهم على يد الشرطة السرية بسبب كتابة شعارات ضد الرئيس. وكان التحدي الذي أبداه الصبية شبيها بأحداث أطلقت شرارة انتفاضات بدول أخرى منها تونس ومصر، كما كشف التعامل الوحشي معهم أثناء الاعتقال عن ظهور استياء قديم كان يغلي تحت السطح.
وتطور الأمر إلى احتجاجات في الشوارع قوبلت من قوات الأمن المدججة بالسلاح بإطلاق النار. وانتشرت الاشتباكات على مستوى البلاد وتفاقمت إلى حرب أهلية دمرت أغلب سوريا قبل أن يُخمد الأسد المعارضة المسلحة بمساعدة من روسيا وإيران.
ويتذكر أبازيد، وهو واحد من بين أكثر من مليوني سوري فروا من الحرب إلى تركيا المجاورة، كيف أجبره أحد أفراد قوات الأمن السورية على الاعتراف تحت الضغط والإكراه بأنه نقش شعارا يقول “أجاك الدور يا دكتور” في إشارة إلى الأسد.
وأطلقت السلطات سراح أبازيد بعد أيام، حين خففت الجولة الأولى من المظاهرات الحاشدة المطالبة بالديمقراطية من القبضة الحديدية للسلطات وبدأت قوات الأمن تلجأ إلى قتل المحتجين السلميين.
وبعد سنوات من إراقة الدماء والفوضى، تمكن أبازيد وأفراد أسرته في النهاية من مغادرة درعا في مايو 2017 واتجهوا إلى تركيا حيث يعمل هو الآن في مجال التشييد. ولا تزال تراوده الكوابيس عن دبابات تعبر في شوارع حي مكتظ بدرعا وأقارب وأصدقاء قتلوا وعن آخرين حملوا السلاح ما فاقم الأمر إلى اندلاع حرب أهلية مدمرة.
لا عودة والأسد موجود
أصبح أبازيد والعديد من سكان مدينته اليوم من بين ملايين اللاجئين الذين أسسوا لحياة جديدة في دول مجاورة وأبعد من ذلك في أوروبا دون أي نية للعودة في أي وقت قريب. ويخشى الكثيرون من تجنيدهم في الجيش أو اعتقالهم ويعلمون أن بلداتهم وقراهم التي كانت مفعمة بمشاعر مناهضة لحكم الأسد تعرضت للسلب والدمار.
ولم يبق سوى عدد يحصى على أصابع اليد من السكان الأصليين لحي أبازيد الأصلي وهو حي الأربعين في درعا، والشوارع أغلبها أصبحت مهجورة. وقال البعض لرويترز عبر رسائل صوتية على الإنترنت إن السخط تنامى مجددا منذ أن استعادت قوات الأسد بدعم من قوة جوية روسية السيطرة على المدينة واستعادتها من يد المعارضة المسلحة في 2019.
وأشاروا إلى أن الشرطة استأنفت قمعها وسط دمار اقتصادي، بينما أعادت السلطات تماثيل وصورا ضخمة للأسد ووالده الراحل في الأماكن العامة التي كانت قد دُمرت ومُزقت في الأيام الأولى للانتفاضة. ويسرد أبازيد ما حصل بمرارة قائلا “لم يتغير شيء منذ الأيام التي هتفنا خلالها بالحرية. طالبنا بحقنا لكن النظام المجرم لم يتعلم شيئا وازداد وحشية ودموية وتمسكا بالسلطة”.
لكن أحلام الثورة لا تزال تراود أبازيد ويقول “حتى لو بشار سيطر فالثورة لن تنتهي ولن يحلم بحكم سوريا مثلما كان في السابق”. وأشار في تلميح للقوى الغربية التي لم تتدخل ضد الأسد خلال الصراع بالقول إن “الثورة انظلمت… فقط هو الخذلان من الدول التي تدعي حقوق الإنسان وتركتنا لمصيرنا”.
كيف أجهضت الثورة

درعا مهد الانتفاضة السورية
في ظل انقلاب الموازين، بات أشد المعارضين للنظام السوري مجبرين على التخلص من فكرة إسقاط الأسد، فهو ممسك بزمام الأمور في المناطق، التي تسيطر عليها قواته، ويسعى إلى ولاية رئاسية أخرى في الانتخابات المقررة بعد أسابيع، فقد خفتت جذوة أمانيهم ليتحولوا إلى التركيز على أن الأسد لن يستطيع أن يحكم كما كان في السابق.
وتتناغم مواقف عدد من السوريين مع مواقف أغلب البلدان العربية وحتى القوى الدولية المعارضة للنظام السوري، بأنه لا مفر من إدخال بشار الأسد في تسوية سياسية ممكنة مستقبلا.
وكانت قوات الأسد تسيطر في 2016 على 26 في المئة من المساحة الجملية للبلاد، ولكن بعد أربع سنوات من التدخل العسكري الروسي لدعم النظام أصبحت تسيطر على 60 في المئة من الأراضي.
ويقول محللون إن استرجاع النظام لمدينة حلب، التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة، وغيرها من المدن الحيوية والاستراتيجية، وأكثر من نصف مساحة سوريا الجغرافية، شكلت فارقا في مجريات الأحداث، ما أعطى الأسد نقطة قوة في المفاوضات التي كانت ترعاها روسيا والأمم المتحدة في أستانة.
درعا تحولت إلى مهد للانتفاضة عقب اعتقال فتيان وتعذيبهم على يد الشرطة السرية بسبب كتابة شعارات ضد الأسد
وحتى يدعم أركان سلطته في وجه التدخل التركي والأميركي كوّن الأسد تحالفات أساسية مع إيران وذراعه حزب الله اللبناني إضافة إلى دعم الصين، التي رفضت التدخل العسكري في سوريا، حيث جاء دعمها نكاية في الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط كما هو الحال مع روسيا.
وفي ضوء تلك التطورات، تشكلت رؤية جديدة لدى بعض القوى الإقليمية وخاصة في بعض العواصم العربية مضمونها أن الحل السلمي للأزمة السورية يعد الخيار الأنسب لمعالجة الملفات الشائكة كالإعمار وقضايا الحدود والإرهاب واللاجئين، وبالتالي تم إغفال النظر عن وجود النظام السوري في أية تسوية سياسية أو سلمية لحل الأزمة.