انتخابات فلسطينية مبتسرة.. قفزة إلى المجهول

منذ بدء العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين أظهرت السنوات ضيق أفق القيادات الفلسطينية حتى وصل أمرها إلى درجة الافتضاح، وتتساوى في ذلك القوى الفتية مع تلك التي شبعت شيخوخة.
الأربعاء 2021/01/06
عباس يشترط ولا يمكن الاشتراط عليه

بعد الكثير من الوعود التي أطلقها محمود عباس، وأعقبها استدعاء حنا ناصر، رئيس لجنة الانتخابات الفلسطينية، بطريقة توحي بأن النوايا حقيقية وجادة؛ سمع الفلسطينيون مع نهاية سنة 2020 أن إسماعيل هنية أرسل رسالة لعباس، حملها جبريل الرجوب، يلبي فيها الأول للثاني شرط التتابع في إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية ولمجلس منظمة التحرير. فقد كانت حماس تشترط التزامن وعباس يتمسك بالتتابع، وذلك كله في سياق مديد من اختراع الذرائع لكي لا تكون هناك انتخابات، ولكي يستمر حكم الأمر الواقع، في كلٍ من الضفة الفلسطينية وغزة.

وكان أسوأ ما جرى تكريسه وأوصل الحالة الفلسطينية إلى الحضيض، هو كون عباس يشترط ولا يمكن الاشتراط عليه، وبسبب ذلك كان السجال في السياسة الفلسطينية الداخلية أشبه بحوار الطرشان الذي ينتهي إلى لا شيء، ولا يكون فيه شيء أصلاً، بل إن هذا السجال ليس له نسق أو سياق معلوم، فظل الفلسطينيون يسمعون من رئاسة سلطتهم الأمر ونقيضه في غضون بُرهة زمنية، وهذه علة أخرى تكشف عن حقيقة خطيرة جدا، وهي أن الموضوعات المطروحة، من قبل عباس أو حماس، ليست مقصودة بحد ذاتها وبمضامينها، وإنما هي محض كلام لفائدة كل طرف في السجال.

في هذه المرة، جاءت الحكاية محملة بلقطة غير مسبوقة، من شأنها أن تساعد على إعطاء انطباع كاذب بالجدية، وهي أن حماس وافقت على التتابع، وكأن المشكلة محصورة في الفارق بين تزامن الانتخابات أو تتابعها. والمدقق في حقيقة الأمر سيرى أن الاشتراط العباسي والاشتراط الحمساوي المضاد، يدلان كلاهما، على أن الطرفين لا يريدان انتخابات، وفي حال أظهرا استعداداً لإجرائها، فسيكون ذلك بالتوافق على المحاصصة في السلطة، مع تدبير عملية انتخابية شكلية.

ولعل أهم ما يدل على ذلك، هو أن حماس لم تطلب من عباس استعادة العمل بالوثيقة الدستورية، ولا هو ألمح إلى إعادة العمل بها، ولم تكلف حماس نفسها مراجعة مراسيم قرارات عباس غير الدستورية، ومن بينها حل المجلس التشريعي، وتأسيس محاكم عليا أو دستورية بشكل منفرد وغير دستوري، وإصدار قوانين إدارة ومالية غير دستورية، والانفراد بالمال وبالإدارة والسفارات وإظهار أعتى أنواع الفساد على هذا الصعيد.

الوضع الفلسطيني يبقى معلقاً ريثما ينتهي الأصوليون والمتطرفون الإسرائيليون من الإجهاز على القضية الفلسطينية، أو على الأقل الإجهاز على السلطتين اللتين لا يختلف اثنان من الفلسطينيين والعرب وحتى الإسرائيليين على فشل وفساد حكمهما

وجرى الترويج لفكرة خاطئة وهي أن إصلاح الأمور سيكون بعد موت عباس أو إزاحته عن طريق صناديق الاقتراع، بينما تدل كل الشواهد على أن إجراء الانتخابات قبل استعادة العمل بالوثيقة الدستورية، وضمانات نفاذ أحكامها، هو المدخل الطبيعي الذي يوفر للعملية الانتخابية أساساً يمكن البناء عليه. ذلك لأن إجراء أية انتخابات، في ظل الوضع القائم، أي في ظل جموح سلطتي أمر واقع، لكل منهما قبضتها الأمنية؛ من شأنه أن يجلب على الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل، بلاء جديداً، سيؤدي حُكماً إلى إلقاء الكرة في ملعب القوى الإسرائيلية المتطرفة، ومنحها صلاحية حسم الأمور، بينما هي مقبلة على انتخابات رابعة في غضون عامين لم تستطع خلالهما أن تحسم أمر الحكم في إسرائيل نفسها.

تحاشياً للإطالة، يمكن الإشارة إلى مثال واحد على استحالة إجراء عملية انتخابية في هذا الوضع الفلسطيني المختل، الذي تنفرد فيه سلطتان، كلٌ منهما في منطقتها، تستطيع قلب الطاولة على السلطة الأخرى. وللأسف الشديد، لم يعد في إمكاننا أن نتخيل إجراء عملية انتخابية نزيهة، ونافذة النتائج، دون ضمانات الخارج يوفرها “أصدقاء” عباس وحماس من ذوي العلاقة مع إسرائيل، يمكنهم وضع خطة لتطبيق نتائج الانتخابات على الأرض، على النحو الذي يؤمن إعادة توحيد الكيان الفلسطيني، بالشروط السياسية التي تلائم سقف عملية التسوية.

فما دون ذلك، يبقى الوضع الفلسطيني معلقاً ريثما ينتهي الأصوليون والمتطرفون الإسرائيليون من الإجهاز على القضية الفلسطينية، أو على الأقل الإجهاز على السلطتين اللتين لا يختلف اثنان من الفلسطينيين والعرب وحتى الإسرائيليين على فشل وفساد حكمهما.

العوامل الكثيرة الضاغطة هي ما دفعت حماس إلى تلبية شرط عباس بالتزامن، وهي نفسها التي جعلت عباس يتقبل التلبية مرغماً. وللأسف، يصح أن نتوقع أن الطرفين سيفتشان عن ذرائع جديدة، إن لم يكن قبل الانتخابات، فأثناءها، وإن لم يكن قبلها وأثناءها، فبعد إعلان نتائجها إن كان لها سياق ينتهي بالنتائج.

لقد أظهرت السنوات، منذ بدء العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، ضيق أفق القيادات الفلسطينية، حتى وصل أمرها إلى درجة الافتضاح، وتتساوى في ذلك القوى الفتية مع تلك التي شبعت شيخوخة وترهلاً، وتخللت دواخلها التناقضات والشّلل المتباغضة، بسبب كونها تتطلع إلى أدوار بلا مضامين سياسية أو وطنية، دون أن تقرأ المشهد من حولها، أو تتعرف على سياقات الأمور. وكان عباس تحديداً، طوال السنوات التي مرت منذ أن تسلم السلطة، هو البلاء الأكبر الذي أفسد معارضيه قبل إفساد مواليه، ودمر كل شيء، ولم يُعن بغير ثراء أولاده والتوافر على أقصى درجات العناية بنفسه راحة وطبابة.

مضطرون، في الحقيقة، إلى التحذير من انتخابات مبتسرة، لا تتوافر لها المحددات الدستورية والضمانات. ذلك لأنها ستكون قفزة إلى المجهول الخطير..

8