ثقافة الاعتذار ليست على ما يرام في المجتمعات العربية

إلغاء العنف والإقصاء والتناحر يبدأ بقول "أنا آسف".
السبت 2020/12/05
كراسي الاعتراف والاعتذار فارغة

رغم أن أغلب الشعوب أدرجت أدب الاعتذار في مناهجها التربوية، وعلمت الناشئة كيف تعتذر ومتى ولماذا، كما ربطت الاعتذار بفلسفة تهذيب السلوك ومنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية، فإن ثقافة الاعتذار تغيب في المجتمعات العربية بسبب موروث اجتماعي خاطئ.

لندن – لا تبدو ثقافة الاعتذار أصيلة في تقاليد المجتمعات العربية ولا العادات الشرقية، بل إن العرب يرون فيها نوعا من الضعف والمساس بالكرامة حتى قال بعض الحكماء “اربأ بنفسك عن مواطن الاعتذار”.

“كنت بحاجة فقط لاعتذار يعيد لي كرامتي أن أسمعه يقول ‘أنا آسف’، لكنه ظل يماطل ويلقي اللوم عليّ مرة وعلى كل المؤثرات الخارجية مرة أخرى حتى خلته سيقول إن ثقب طبقة الأمازون هو السبب في خطئه”، تقول هاجر (35 عاما) الموظفة في بنك.

وأضافت “عرفت أنه لن يقول أعتذر بسهولة فلم يحدث أن قالها، وانفصلنا، لقد فضل كلمة على حياتنا”. وتابعت “كان الاعتذار ليؤكد أنه يحترمني ويهتم بمشاعري، وأنه لم يكن ينوي إيذائي، وأنه يعتزم معاملتي بشكل أفضل في المستقبل. وكنت سأقبل اعتذاره، ونمنح أنفسنا فرصة أخرى”.

وتؤكد خبيرة علاقات اجتماعية “لقد كنت من حين لآخر شاهدة على الشفاء الذي يمكن أن يحدث عندما يتلقى شخص ما اعتذارا ذا مغزى، فقد سبب هذا النوع من الاعتذار شفاء تاما لأشخاص كانوا بحاجة إليه حقا”.

وعلى الرغم من أن السمة البارزة عند المجتمعات الشرقية هي العلاقات الاجتماعية المترابطة، إلا أنها تفتقد مهارة الاعتذار فالمهمة جدت للحفاظ على الترابط الاجتماعي.

على المجتمعات أن تبني ثقافة الاعتذار التي ستمهد الطريق لثقافة أعم وأشمل ألا وهي ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر

ويعود السبب في افتقاد هذه الثقافة الإنسانية إلى الكبرياء، واعتبار أن الاعتذار دليل ضعف الشخصية، أو فشلها، وأن عزة النفس والكرامة عند الشرقيين تحولان دون الوصول إلى الاعتذار والتدرب على اكتساب هذه المهارة. وتقوم ثقافة الاعتذار في المجتمع على عدد من المعايير الثقافية المستقلة، أهمها احترام الآخر.

كما تستمد ثقافة الاعتذار أهميتها مما يسمى “التراتبية الاجتماعية”، إذ أن المجتمع العربي مبني في ثقافته على “التراتبية”، حيث النظرة الفوقية من قبل البعض للبعض الآخر، وهو ما يجعل انتشار ثقافة الاعتذار صعبا فيجد الأب صعوبة كبيرة في الاعتذار لأبنائه، أو زوج لزوجته، أو أخ لأخيه، أو جار لجاره، أو مدرس لطلابه أو مدير لموظفيه.

وتعد التركيبة البنيوية لمجتمعاتنا العربية متأثرة كثيرا إن لم تكن مبنية على الثقافة البدوية التي تفهم الاعتذار كصيغة تعبيرية عن الضعف والخنوع وهو أمر مرفوض في الأعراف الذكورية التي تقدس ثقافة القوة والتباهي والتفاخر. وهذه الصورة لا تزال منتشرة ولو بنسب متفاوتة في المجتمعات العربية.

لا اعتذارات في الثقافة العربية الإسلامية
لا اعتذارات في الثقافة العربية الإسلامية

وغياب ثقافة الاعتذار في المجتمعات الشرقية نتاج طبيعي عن غياب ثقافة الحوار وثقافة الاعتراف بوجود الآخر وكينونته. لذلك تعتبر ثقافة الإقصاء والتهميش هي الثقافة الغالبة في المجتمعات التي تنكر أهمية الاعتذار.

ويؤكد خبراء علم الاجتماع أن تعزيز ثقافة الاعتذار في المجتمعات العربية مطلب ملح يجب أن يكون جزءا أساسيا من المكونات الفكرية، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، لأن الخطأ سلوك بشري مستمر ويلزم إصلاحه لتحقيق مجتمع مثالي.

ويؤكد هؤلاء الخبراء أن الحقيقة الواضحة هي أن الاعتذار دليل الشجاعة على مراجعة النفس وتصحيح الخطأ من خلال المحبة والثقة بالنفس. الاعتذار ليس لغة الضعفاء، بل هو لغة الشخصية القوية والإنسان الراقي الذي يحترم نفسه، كما أنه سلوك أخلاقي نبيل تتسم به حياة الأسوياء، يعكس بوضوح رزانة عقل، وأمانة ضمير، ونزاهة شخصية في تعاملاتها مع الآخر مهما كان وأينما كان. فثقافة الاعتذار مرتبطة بالنبل، والمروءة، واحترام الذات، واحترام الآخر وكينونته وخصوصيته.

وتقول عالمة النفس كارينا شومان الأستاذ المساعد بجامعة بيتسبرغ “لم يكن هناك الكثير من الأبحاث بشأن المذنب، لم يكن هناك تجاهل تام، لكن البحث في أسباب اعتذار شخص ما من عدمه هو أمر بدأت دراسته حديثا”، يتعلق الأمر بالوقت، فإذا تمكن الناس من فهم ما يجعل الاعتذار لائقا لقدموا الكثير منه، فالاعتذار يجلب التعافي والغفران وقوة العلاقات.

غياب ثقافة الاعتذار في المجتمعات الشرقية نتاج طبيعي لغياب ثقافة الحوار وثقافة الاعتراف بوجود الآخر

ووجدت دراسة أجريت في 2012 أن الأشخاص الذين يفشلون في الاعتذار لديهم ارتفاع في حب الذات وزيادة في الشعور بالتحكم في الآخرين والسيطرة عليهم، مقارنة بأولئك الذين يجيدون الاعتذار، والسبب في ذلك أنهم يرون أن الاعتذار يمنح الضحية الفرصة لتضخيم الخطأ ويقوض من “سلامة القيمة” وهي ثقة المرء في نفسه كشخص جيد وثقته في سلامة معتقداته.

وتقول الكاتبة التونسية أمال قرامي “ميزت الشعوب بين الاعتذار الصادق الذي ينم عن إدراك ووعي وقدرة على الاعتراف بارتكاب الأخطاء، وإلحاق الضرر مهما كان نوعه، ماديا، اجتماعيا، واقتصاديا، ونفسيا…، بالآخر بقطع النظر عن جنسه وسنه وعرقه ودينه، والاعتذار المزيف الذي لا غاية له سوى البحث عن طريق للخروج من المأزق. وضمنت بعض البلدان في قوانينها صيغا من أشكال الاعتذار منها الشفوي ومنها المدون”.

وتضيف “لئن أطنب العلماء في الثقافة العربية الإسلامية في الحديث عن الآداب: آداب المؤاكلة والشرب، والمجالسة، وآداب النوم، وآداب الجماع، وآداب دخول الخلاء، وآداب اللباس… فإنهم والعهدة على المؤرخين، لم يولوا، في الغالب، الاعتذار أهمية بالغة. ولعل للأمر علاقة وطيدة بالنظام التراتبي، وتوزيع السلطة، وبنية العلاقات الاجتماعية والسياسية. فالكبير لا يعتذر للصغير، والمسلم لا يعتذر للذمي، والسلطان لا يعتذر للرعاع، والحر لا يعتذر للعبد، والأبيض لا يعتذر للأسود”.

الشعوب العربية مطالبة بالتأسيس لثقافة الاعتذار التي تبدأ من البيت والمدرسة أولا لتعم المجتمعات أخيرا
الشعوب العربية مطالبة بالتأسيس لثقافة الاعتذار التي تبدأ من البيت والمدرسة أولا لتعم المجتمعات أخيرا

ويؤكد الخبراء أنه يجب على المجتمعات أن تبني ثقافة الاعتذار التي ستمهد الطريق لثقافة أعم وأشمل ألا وهي ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر والتي ستلغي ثقافة العنف والإقصاء والتناحر، والبداية تكون من البيت أولا والمدرسة وأخيرا المجتمع ليجبر بعدها الحكام على الاعتذار حين يخطئون.

إن اعتذار الحكام والمسؤولين والساسة متعارف عليه في الديمقراطيات الغربية. وأرجع الباحث السياسي محمد محمود السيد ذلك لأسباب عديدة منها أن الاعتذار قد يكون غطاء لبعض الأفعال غير القانونية، أو نوعا من المواربة السياسية، أو لمخاطبة الرأي العام، أو الإيقاع بالمعارضة أو الخصوم السياسيين، أو حتى لرغبة الحاكم أو الحزب في تلميع صورته أمام الجماهير. وقد ينم الاعتذار أيضا عن القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع.

ولا تعرف الدول العربية اعتذار الحكام، سواء لأهداف سياسية أو باعتباره مستمدا من قيم المجتمع. وقال السيد إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست مبنية على أن الحاكم موظف عام لدى الشعب، كلفه بمهمة معينة في مدة محددة، على أن يخضع الحاكم بعد ذلك للحساب والعقاب، في حال ارتكابه أي خطأ، لكنها علاقة أبوية يكون فيها الحاكم ربا للأسرة الكبيرة، وولي أمرها والقائم على شؤونها، وبالطبع لا يعتذر ولي أمر لأبنائه عن أخطائه. وهذا ما يظهر بصورة واضحة في الخطابات السياسية للزعماء العرب السابقين والحاليين.

ويرتبط نكران الأخطاء وعدم الاعتراف بها من قبل الحكام العرب بصورة رئيسية بنرجسيتهم المفرطة، التي تنامت بعد جلوسهم على كرسي السلطة. وتقول موريال ميراك فايسباخ في كتابها “مهووسون بالسلطة، تحليل نفسي لزعماء استهدفتهم ثورات 2011″، إن جوهر النرجسية هو حب الذات الذي يستتبع عددا من الصفات. فالنرجسي يفرط عادة في تقدير نفسه وقدراته، ويطلب الإعجاب من الآخرين الذين يطمئنون إلى عظمته. وتشير في تحليلها لشخصية الحكام العرب، إلى أنهم يحيطون أنفسهم دائما بالرجال الذين يوافقونهم في الرأي، والمتزلفين والمتملقين.

Thumbnail

كما أنهم يحتاجون إلى الشعور بأنهم محبوبون ويُخشى منهم، ولا يحتملون أي انتقاد وهم عاجزون تماما عن النظر في إمكان أن ينقلب شعبهم عليهم. ويتوجب الأمر تجنب الأشخاص الذين يظهرون أي حكم مستقل على الأمور، ومن يجرؤ على انتقاد الزعيم النرجسي، أو يُشكك في سلطته، يصبح عرضة للضغط الاجتماعي الهائل. وهذا يفسر سبب إصرار الزعماء النرجسيين على السيطرة الكاملة على الرأي العام من خلال وسائل الاتصال الجماهيرية.

وأوضحت الكاتبة أن للصورة العامة للزعيم دورا حاسما في فرض الشعور بتفوقه المفترض. لذلك في الأنظمة الدكتاتورية العربية، تنتشر صور أكبر من الحجم الحقيقي للزعيم.

وربما يكون الاعتذار بين الدول شبيها بالاعتذار بين الأشخاص. فدونه تبقى مرارة التاريخ وخسائر أحداثه المؤسفة جزءا من الحاضر وعقبة في طريق الصلح والتعاون. وفي جميع الأحوال، لا شك أن الاعتذارات ذات قيمة معنوية عالية ترد الكرامة وتعبر عن الاحترام للحزن والمآسي التي مرت بها الشعوب والجماعات.

بالنسبة للشعوب العربية بالتحديد، خاصة مع التغيرات التي تشهدها وضرورة إعادة النظر في هوياتها الوطنية، هل تكون هناك حاجة لمثل هذه الاعتذارات أن تقدم، وأن يُطالب بها؟ وهل يكون لنظرة تسامح للماضي دور في حياة الشعوب العربية وتعاملها مع تاريخها القريب، وربما زخم لبناء هوية وطنية مستقبلية تحترم العدالة وتتجاوز حدود الماضي؟

20