مواقع أثرية في شمال سوريا تتحول إلى مساكن للنازحين

عائلات تختار الابتعاد عن المخيمات خوفا من التأثيرات الخطيرة للوباء.
الأربعاء 2020/11/11
بعيدا عن الوباء

لم يستطع سكان الشمال السوري العودة إلى مدنهم وقراهم، ومنهم من لم يحتمل الاكتظاظ في المخيمات خاصة بعد تفشي وباء كورونا الذي تنتشر عدواه بسرعة، فلجأوا إلى المواقع الأثرية يضعون فيها خيامهم ويستقرون بها رغم أنها مدرجة ضمن قائمة اليونسكو.

باقرحا (سوريا) - وسط ما بقي من جدران وأعمدة معبد روماني يعود بناؤه إلى القرن الثاني، وضع عبدالعزيز الحسن خيمة تأويه وعائلته مفضلا هذا الموقع الأثري في منطقة باقرحا على مخيمات النازحين المكتظة في شمال غرب سوريا.

وعلى غرار عبدالعزيز، اختارت عائلات نازحة عدة الإقامة في مواقع أثرية بمنطقة باقرحا وجوارها، المدرجة على قائمة التراث العالمي للبشرية التي تعدها اليونسكو.

ويقيم نحو 1.5 مليون نازح في أكثر من ألف مخيم على طول الحدود بين إدلب وتركيا. ويبدو أن ابتعاد تلك العائلات عن الاكتظاظ جاء في مصلحتها مع انتشار فايروس كورونا المستجد والخشية المتصاعدة من “كارثة” صحية.

يقول عبدالعزيز، وهو والد لثلاثة أطفال، “اخترت هذا المكان لضمان راحة البال والابتعاد عن الأماكن المزدحمة وتلك التي تنتشر فيها الأمراض”.

وضع الشاب الثلاثيني، نحيل البنية، خيمته بين ما بقي من ثلاثة جدران أثرية، وقد تناثرت حولها حجارة ضخمة وبقايا أعمدة انهارت على مرّ الزمن، وهي تعود إلى معبد زيوس بوموس الروماني، ويعرفه السكان اليوم باسم “برج باقرحا”.

قرب الخيمة، وبين حجارة ضخمة تحميه من الرياح، وضع عبدالعزيز موقدا صغيرا يشعل فيه الحطب للطبخ، ولوحا يعمل بالطاقة الشمسية لتأمين مياه ساخنة للاستحمام. وعلق بين جدران المعبد حبلا للغسيل.

يقول المدير العام السابق للمديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق، مأمون عبدالكريم، إن باقرحا “من المواقع الهامة لكونها تلقي الضوء على التطور الريفي في هذه المنطقة خلال العصرين الروماني والبيزنطي”، مشيرا إلى أن ثمة مباني ما زالت “في حالة من الحفظ الجيد” رغم ما تعرض له هذا الموقع من أعمال نهب بمشاركة عدد من أهالي المنطقة في عمليات التنقيب عن القطع الأثرية والاتجار بها، متعاونين مع شبكات من المهربين والتجار.

وباقرحا لفظة سريانية مركبة من كلمتين “با” وتعني بيت و”قرحا” تعني الصومعة، حيث يعتقد وجود علاقة بين التسمية ومجيء أحد الرهبان إلى المدينة وسكنه في صومعة. وتحتوي آثار الموقع على مجموعة من البيوت مبنية في صفوف متراصة فوق شرفات محفورة في منحدر الجبل تتخللها شوارع مستقيمة وتتكون من أدراج صاعدة تتسلق الجبل، ومتقاطعة في اتجاهين الشرقي – الغربي والجنوبي – الشمالي.

ويعد النظام العمراني الذي بنيت وفقه تلك البيوت متطورا ومميزا، وشاهدا على الازدهار الذي عاشته تلك المدينة المهجورة قبل آلاف السنين، فأحجارها الكبيرة صقلت بإتقان فني أخّاذ وكل بيت فيها مكون من طابقين سفلي كان يستخدم إما متجرا وإما مستودعا وإما معصرة، في حين أن الطابق العلوي مخصص للسكن, كما يتصدر كل بيت رواقان جنوبي وشمالي تمتاز أعمدتهما بالتيجان التي تعلوها وبزخرفتها المتقنة.

ومن أهم أوابد الموقع البرج الواقع في أعلى البلدة والذي يعرف ببرج باقرحا ولا يزال بحالة سليمة وهو عبارة عن هيكل وثني للإله “زيوس بوموس” ويعود تاريخ بنائه إلى العام 161 ميلادي، وكذلك كنيستان بازليكيتان تقعان غرب وشرق المدينة وتمتازان بأحجارهما الكبيرة والمصقولة، تعود الأولى إلى العام 501 ميلادي والثانية وهي بازيليك كبيرة إلى العام 546.

شمال غرب سوريا يضم حوالي أربعين قرية تعود إلى الحقبة البيزنطية أي ما بين القرنين الأول والسابع الميلاديين
شمال غرب سوريا يضم حوالي أربعين قرية تعود إلى الحقبة البيزنطية أي ما بين القرنين الأول والسابع الميلاديين

ويضم شمال غرب سوريا حوالي أربعين قرية، من بينها باقرحا، وتعود إلى ما بين القرنين الأول والسابع للميلاد من الحقبة البيزنطية. وقد وضعتها اليونسكو على قائمة التراث العالمي منذ سنة 2011.

وتشمل، وفق موقع المنظمة، معالم أثرية لعدد من المساكن والمعابد الوثنية والكنائس والأحواض والحمامات العمومية. وتُعد “دليلا مهما على الانتقال من التاريخ الوثني للإمبراطورية الرومانية إلى الحقبة المسيحية في العصر البيزنطي”.

لكن الحياة في هذه المنطقة المهجورة ليست بالأمر السهل، إذ يجب على أطفال عبدالعزيز السير مسافة حوالي 1.5 كيلومتر للوصول إلى مدرسة القرية في منطقة تنتشر فيها العقارب والأفاعي، حتى أنهم يتأخرون أحيانا عن دوامهم، على حد قوله.

ويروي “منذ يومين قتلت أفعى كانت بالقرب من باب (الخيمة) بعدما دخل علي ابني وهو يرتجف” من الخوف. ويضيف “كل يومين نقتل عقربا.. لكننا لم نجد أفضل من هذا المكان”.

مرّ حوالي العام على نزوح عبدالعزيز، ولم يتمكن حتى اللحظة من العودة رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في مارس 2020 برعاية روسيا وتركيا لوقف الهجوم الذي دفع بنحو مليون شخص إلى النزوح، وعاد منهم 235 ألفا وفق تقديرات الأمم المتحدة.

وفي سوريا، كنوز تعود إلى حقبات الرومان والمماليك والبيزنطيين، مع مساجد وكنائس وقلاع صليبية، إلا أن مئات المواقع الأثرية تضررت خلال السنوات الماضية نتيجة المعارك والقصف فضلا عن أعمال السرقة والنهب.

لم يلجأ عبدالعزيز وحده إلى الموقع الأثري، بل رافقه صهره صالح جعور وأولاده بعدما فقد زوجته، شقيقة عبد العزيز، وأحد أولاده جراء القصف.

ويقول صالح (64 عاما)، الذي غزا الشيب شعره وذقنه، “اخترت هذا المكان لأنه قريب من الحدود التركية، وفي حال حصل شيء ما، نذهب سيرا إلى تركيا”.

ويضيف، “إنه مكان بعيد عن الزحمة والضجيج”.

وفي الآونة الأخيرة، طلب مسؤولون محليون منهم مغادرة المكان، لكن العائلة رفضت لعدم قدرتها على تأمين بديل، فيما تعاني لتأمين قارورة الغاز أو مياه من القرية المجاورة.

ويتساءل صالح، “إلى أين نذهب؟”، فلا قدرة له على الترحال ووضع خيمة من جديد أو حتى استئجار سيارة لنقل أغراضه، رغم تخوفه من فصل الشتاء والمصاعب التي ستأتي معه.

وبهدف إبعاد النازحين من المنطقة الأثرية، يسعى المجلس المحلي في قرية رأس الحصن المجاورة إلى إيجاد حلول بديلة. ويأمل في أن تساعد المنظمات المعنية على نقلهم إلى مخيمات يتم إنشاؤها في منطقة قريبة. إلا أن عبدالعزيز يقول “اعتدنا على المكان”.

20