وسط استقطاب سياسي.. هل تنجح تونس في اختبارها الأصعب

تتباين آراء المحللين حول ما إذا كانت ستؤدي المحاولة الثالثة في تونس لتشكيل حكومة في أقل من عام، إلى حل الخلافات الحزبية الداخلية التي أطاحت بالحكومتين الأخيرتين، ما يترك قادتها غير قادرين أو غير راغبين في تمرير الإصلاحات اللازمة للتخفيف من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد. والسؤال الأكبر الآن هو هل لدى هشام المشيشي القدرة على لملمة كل تلك الفوضى؟
تونس- تدخل تونس اليوم مرحلة جديدة أكثر تعقيدا من السابق بفضل عدة عوامل متداخلة أغلبها سياسي جعلت من الأمور تبدو أشبه بمهمة مستحيلة أمام حكومة هشام المشيشي الذي يسعى إلى إرضاء الجميع للبقاء في منصبه وتنفيذه لأجندته التي جاء من أجلها.
وحتى مع موافقة البرلمان على حكومة المشيشي، فإن المنافسات الحزبية العميقة تعرقل الحوكمة الرشيدة ولن تنتهي على الأرجح، ممّا يضعف قدرة تونس على تأمين التمويل الخارجي اللازم، فضلا عن المحافظة على كونها نموذجا للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
والآن ستبدأ العيون شاخصة نحو حكومة المشيشي بعد أن أصبحت رسميا هي من تدير دفة الاقتصاد إلى جانب ملفات حارقة أخرى. ولكن يبدو أن لديها أدوات محدودة لإنعاش محركات النمو وإبعاد البلاد عن الشلل الذي أصاب التنمية خلال فترة حكم يوسف الشاهد. وهنا تقفز علامات استفهام كثيرة عن الأسلوب الذي ستتم به معالجة الأزمة المزمنة.
انقسامات عميقة
يعتبر الانقسام في الطيف السياسي بين الأحزاب العلمانية والإسلامية، حول ما إذا كان الخيار الأفضل هو حكومة تتماشى مع الخطوط الحزبية، أو حكومة تكنوقراط تركز على الإصلاحات المالية والاقتصادية التي من شأنها أن تغضب بعض الأحزاب السياسية في البرلمان حيث قد تشعر بأنها مستبعدة من عملية صنع القرار.
وبينما يعكس النظام السياسي الديمقراطي التركيبة السكانية للبلاد، فإنه يعيق العملية السياسية نتيجة الاستقطاب الحاد بين التيارات المختلفة.
وتقول إيملي هاورثون محللة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز ستراتفور الأميركي إن المناخ السياسي شديد الاستقطاب قد يتسبب في تعرض الحكومة التونسية الجديدة لخطر الانهيار، ممّا يؤدي إلى جولة أخرى من الانتخابات وفقا للدستور، إضافة إلى تعقيد المأزق السياسي.
وقد استخدم حزب حركة النهضة الإسلامي، صاحب الأغلبية البرلمانية سلطته، في البرلمان للإطاحة بالحكومة الأخيرة، فيما يعمل على الاحتفاظ بالقوة السياسية اللازمة لفعل ذلك مرة أخرى مع الحكومة المقبلة.
في المقابل يعمل خصوم النهضة وموالوها ومن بينهم ائتلاف الكرامة ومعظمهم من العلمانيين على تشكيل تحالف لإضعاف قوة الحزب الإسلامي، لكنهم يختلفون حول مزايا تشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية ومدة نجاحها في مهمتها.
ويبدو الاقتصاد أكثر الملفات سخونة اليوم لكونه سيحدد مصير الدولة في الفترة المقبلة التي تعاني من مشاكل لا حصر لها قد انسحبت على كل مظاهر الحياة.
وفي ضوء الوضع الراهن ليس هناك ما يشير إلى أن القطاعات الحيوية الأخرى ستترك مربع الركود رغم أن عجلة إنتاج الفوسفات عادت إلى الدوران لأن الطريقة الأمثل التي يجب أن تتعامل بها الحكومة هي ترسيخ مبادئ الشراكة بين القطاعين العام والخاص لإنقاذ المؤسسات الحكومية المتعثرة.
فأغلب المؤشرات مقلقة، لذلك فإن الأمر اليوم بالنسبة إلى الشعب لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، وإن على الحكومة الجديدة القطع مع الارتباك وغياب الجرأة في إدارة الاقتصاد كما كان مع الحكومات السابقة، والتي تتحمل مسؤولية جعل تلك الأرقام سلبية، بل وكارثية، ما كبّد البلاد خسائر فادحة.
أدوات محدودة
الأدوات التي سيتعامل بها المشيشي لن تكون مختلفة عمّن سبقوه رغم اختلاف الظروف، لأن الدافع الأساسي لوضع البلاد على سكة النمو يكمن في محددات معروفة وهي الأموال التي سيعالج بها المشكلات المزمنة، إلى جانب طريقته في مكافحة الفساد والبيروقراطية والتخلص من عبء النفقات المزمن في الموازنة.
ويبدو أن التضخم والبطالة المتزايدة وانخفاض النمو ستستمر كلها في إضعاف الاقتصاد التونسي حيث تفشل الحكومة في دفع الإصلاحات من خلال البرلمان المنقسم. وسيتطلب تمرير وتنفيذ إصلاحات هيكلية تشمل رفع الضرائب على سبيل المثال، المشاركة والتعاون بين الفصائل السياسية المتنافسة في البلاد. ومع ذلك، فإن هذا غير مرجح إلى حد كبير، لأن مثل هذه الإصلاحات لا تحظى بشعبية بين الناخبين التونسيين والنقابات العمالية.
وسيؤدي استمرار الفشل في تمرير الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية إلى تقويض قدرة تونس على الحصول على تمويل مفيد من صندوق النقد الدولي. ولدى تونس أعلى فاتورة للرواتب العامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتواصل الحكومة استخدام التوظيف في القطاع العام كوسيلة لتحقيق الاستقرار.
وقد ازدادت خطورة قضايا الدين العام في تونس إلى درجة أن الدولة تسعى إلى إعادة جدولة ديونها مع الدائنين الرئيسيين، مثل السعودية وفرنسا.
ومن المتوقع الآن أن يصل عجز الميزانية التونسية إلى 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بحلول نهاية العام الجاري، مرتفعا من 3 في المئة قبل وباء كورونا، والذي كان له تأثير ضار على إيرادات السياحة والخدمات الهامة.
وكانت تونس في مناقشات مع صندوق النقد بشأن صفقة تمويل جديدة قبل أن تأخذ الأزمات الاقتصادية والسياسية المزدوجة في البلاد منعطفا نحو الأسوأ. وفي مارس الماضي، ألغى صندوق النقد اتفاقية بشأن تسهيلات التمويل. ومن المتوقع توقيع اتفاقية لاحقة بمجرد أن تنحسر أزمة “كورونا”.
ويقول مراقبون إن افتقار الحكومة إلى الوسائل المالية والإرادة السياسية للوفاء بوعودها بخلق المزيد من الوظائف على المستوى المحلي يعني أنه من المحتمل تكرار الاحتجاجات في المدى القريب.
يبدو الاقتصاد أكثر الملفات سخونة اليوم لكونه سيحدد مصير الدولة في الفترة المقبلة التي تعاني من مشاكل لا حصر لها قد انسحبت على كل مظاهر الحياة
في عام 2017، توصل محتجون في جنوب تونس إلى اتفاق مع الحكومة السابقة التي كان يرأسها يوسف الشاهد لإنهاء حصارهم لحقول النفط والغاز في المنطقة. في المقابل، تعهدت الحكومة بتوظيف المزيد من السكان المحليين في مشاريع النفط والغاز أو الوظائف الحكومية.
لكن في السنوات التي تلت ذلك، فشلت الحكومة إلى حد كبير في الوفاء بهذا الوعد، تاركة المجال مفتوحا لاحتمال تجدد الاضطرابات بين السكان المحبطين في المناطق الجنوبية والوسطى، مثل الكامور وتطاوين وقفصة ورمادة.
وكان تحقيق النطاق الكامل لاتفاقية 2017 سيكلف حوالي 28 مليون دولار. لكن الحكومة تخشى أيضا أن يؤدي ذلك إلى تكلفة دورية ومتنامية، حيث تتوقع الأجيال القادمة فرص عمل مماثلة.
ويبقى ملف إنعاش سوق العمل مطلبا أساسيا، ليس عبر فتح باب التوظيف في القطاع العام، الذي لم تعد طاقته تتحمل، بل بالتحفيز على المبادرات الخاصة وإعطاء دعم أكبر لرواد الأعمال الذين يبحثون عن بارقة أمل في المصارف لتمويل مشروعاتهم.