الرسم بقوة الحياة

تبقى اللوحات ويفنى رساموها. تلك فكرة متحفية. توفي بابلو بيكاسو عام 1973 غير أن رسومه لا تزال تسحر ملايين جديدة من بشر ولدوا بعد وفاته. هل أفنى الرسام الإسباني حياته من أجل أن تتمتع لوحاته بالخلود؟ ذلك سؤال ساذج.
لقد عاش بيكاسو حياته بعمق ولذة مفتونا بتفاصيلها، محملا بشتى أنواع الإغراءات التي جعلته يقبل عليها بنهم لأنه كان يعرف أنه لن يعيش إلاّ حياة واحدة لن يضيعها من أجل أن يكون خالدا.
لم تكن فكرة الخلود هي دافعه إلى الرسم، بل الحياة التي قرّر أن ينصفها من خلال موهبته العظيمة. لم يكن يرسم إلاّ لأنه يتمتّع بالحياة التي هي هبة استثنائية. وهو بذلك وهب حياته معنى من خلال الرسم وارتقى بالرسم إلى مستوى حياة لم يعشها إلاّ شخص واحد هو بيكاسو نفسه.
مَن يطّلع على سيرة ذلك الرسام العظيم لا بد أن يكتشف أنه كان مخلصا لحياته التي اعتبرها مجالا حيويا يتحرّك فيه شخص استثنائي من نوعه.
لم يعش بيكاسو من أجل أن يرسم، إنما رسم من أجل أن يثني على حياته التي لم تصنعها المصادفات، بل كان الجزء الأكبر منها من صنعه. ذلك ما يمكن أن نتعرّف عليه من خلال الاطلاع على سير رسامين كبار مثل روبنز ورامبرابت وغويا وفنسنت وأرشيل غوركي وجاكسون بولوك.
كانت الحياة هي الهبة المغمورة بالموسيقى فيما كان الرسم هو الموهبة التي استند إليها التوزيع الموسيقي. بمعنى أن الرسام ليس ذلك الناسك العاكف في عزلته على رسومه، بل هو رجل الحياة الذي يلجأ إلى الرسم من أجل اكتشاف المزيد من سبل العيش.
إنه فاتح طرق في الحياة المباشرة كما في الحياة المتخيلة. ليس المتحف هو حلم كل الرسامين. كان بول سيزان الذي قرّر أن يكون لرسومه مكان في متحف اللوفر استثناء في ذلك المجال.
صورة الرسام الحقيقية يمكن التعرّف عليها حين تكون رسومه مرآة لحياته. “هكذا عشت ولذلك رسمت وما أزال حيّا، لأنني رسمت بقوة الحياة”.