معارضة أنقرة ما يجمع باريس بالقاهرة في ليبيا

أظهرت الكثير من المواقف السياسية لكل من القاهرة وباريس، تقاربا كبيرا في ما يتعلق بالقضية الليبية، حيث بات الطرفان يعدلان خياراتهما في هذا الملف على نفس الموجة لسبب بات معروفا لدى المتابعين لتطورات ملف معقد وشائك ألا وهو انزعاج فرنسا كما مصر تماما من أنشطة تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي نزل بثقله طامحا في إحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية في شمال أفريقيا.
القاهرة – كشفت مواقف سياسية عدة عن وجود تقارب لافت بين مصر وفرنسا أكثر من غيرهما في التعامل مع الأزمة الليبية، ربما تكون للقاهرة وباريس علاقات وطيدة وتفاهمات كبيرة مع دول كثيرة، غير أنها لا تميل إلى اتخاذ مواقف واضحة ومعلنة تؤكد ذلك، فمصر ليست الأقرب لفرنسا على الدوام، والعكس، لكن في الآونة الأخيرة تعززت القناعات بأن هناك كيمياء سياسية تجمع الطبقة الحاكمة في البلدين.
يعتقد البعض أن الخلافات مع تركيا هي القاسم المشترك بينهما، وأدت إلى هذا الدفء في العلاقات والتنسيق في المواقف حتى كادت تتقارب بصورة لم تعد خافية على كثيرين، وانعكست تأثيراتها على التحركات التي تقوم بها أنقرة في شرق البحر المتوسط وليبيا، وهو تقدير صحيح له ما يسنده من إثباتات متعددة.
نفذت القوات البحرية المصرية والفرنسية تدريباً بحرياً عابراً بنطاق الأسطول الشمالي بالبحر المتوسط، باشتراك الفرقاطة الشبحية المصرية “تحيا مصر” مع الفرقاطة الشبحية الفرنسية ACONIT، السبت.
وذهبت التقديرات عندما تم الإعلان عن التدريبات إلى أنها موجهة لتركيا التي تحرشت سفنها بنظيرتها الفرنسية من قبل، وترسل بها مصر رسالة تفيد بأن عدم تجاوز الخط الأحمر سرت – الجفرة يستلزم استعدادا بحريا وتكاتفا مع القريبين منها في المواقف على الساحة الليبية.
قواسم مشتركة
أرادت مصر منها تعزيز الانطباعات المتزايدة بشأن تطور علاقاتها مع حلفائها، وجاهزيتها البحرية، حال تدخلها عسكريا في ليبيا، مع تنامي التصريحات حول قيام تركيا بإرسال سفن لها بالقرب من شواطئ ليبية، والتلويح بمناورات بحرية هناك.
وأكد الجيش المصري أن التدريب تضمن العديد من الأنشطة ذات الطابع الاحترافي تركزت على أساليب تنظيم التعاون في تنفيذ المهام القتالية بالبحر ضد التشكيلات البحرية المعادية مع الاستخدام الفعلي للأسلحة في الاشتباك مع الأهداف السطحية والجوية، وتنفيذ المعارك، مع استخدام طائرات الهل المحمولة بحراً.
الرغبة المصرية تلتقي مع رغبة فرنسا، لأن القاهرة لم تجد في أي من الدول الغربية تعاونا جادا في ملف مكافحة الإرهاب
جاءت التدريبات في إطار دعم ركائز التعاون المشترك بين القاهرة وباريس والتعرف على أحدث نظم وأساليب القتال بما يساهم في صقل المهارات والخبرات القتالية والعملياتية ودعم جهود الأمن البحري والاستقرار والسلم في البحر المتوسط، بمعنى أن من يفكرون في تغيير هذه الحالة سيتعرضون لمواجهة ضارية.
واعتادت مصر إجراء تدريبات ومناورات بمفردها، وبالتعاون مع قوى إقليمية ودولية مختلفة، كما أن القوات العسكرية الفرنسية انخرطت في العديد من المناورات مع نظيرتها المصرية، وركزت على الاتجاه الإستراتيجي الشمالي الغربي، في إشارة إلى أن المقصود منها رفع مستوى الجاهزية لمواجهة أي خطر قادم من ليبيا.
تبلور التقارب العسكري بين القاهرة وباريس في بداية عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومع ارتفاع مستوى السخونة المسلحة على الأراضي الليبية، وقبل أن تنغمس تركيا فيها بالصورة الراهنة، وظهرت معالمه في الموافقة على تزويد مصر بطائرات الرافال، وغيرها من المعدات العسكرية الحديثة التي مثلت إضافة نوعية للجيش المصري، وضاعفت من إمكانية عدم الإرتهان بالإرادة الأميركية.
ولم يكن اللقاء على أرضية دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، هو الزاوية الوحيدة التي تثبت التعاون بين القاهرة وباريس، بل اتسعت لتشمل الحرب على الإرهاب ومكافحة التنظيمات المتطرفة، وأثمر التنسيق المستمر بين الجهات الثلاث، الجيش الليبي ومصر وفرنسا، عن نتائج مذهلة في قطع دابر الكثير من التنظيمات المتشددة في شرق ليبيا.
وقادت هذه الحالة إلى تطوير التعاون ليشمل الجنوب الليبي، حيث تتمركز عناصر تابعة لتنظيمي داعش والقاعدة، ويمكن أن تتسرب إلى مصر من جهة الجنوب الغربي، وتمثل تهديدا أمنيا لفرنسا وقواتها المتمركزة في بعض الدول المجاورة، وأصبح نفوذها التقليدي في كل من تشاد ومالي والنيجر معرضا للخطر، إذا تحول جنوب ليبيا لمنطقة جذب للجماعات الإرهابية.
وارتفع مستوى التعاون الأمني عقب دخول تركيا على الخط من قناة تصدير الآلاف من المرتزقة، وما تدفق معهم من معدات عسكرية متطورة، في ظاهرها تبدو دعما لحكومة الوفاق في طرابلس، وفي باطنها تدشين أداة أو ذراع جديدة لتركيا لتحقيق أغراضها المتباينة في ليبيا، ومنها تهديد أمن مصر، ووضع مصالح فرنسا في الدول المجاورة على فوهة بركان من التنظيمات التطرفة تحيط بها من جوانب متباينة.
التقت الرغبة المصرية مع الفرنسية، لأن القاهرة لم تجد في أي من الدول الغربية تعاونا جادا في ملف مكافحة الإرهاب سوى مع باريس، والتي أنهت فترة من التردد صاحبت مواقفها سابقا، حيث حاولت مسك العصا من المنتصف بين الفرق المتحاربة في ليبيا، وانحازت في النهاية لمن يحاربون الإرهاب على من يوفرون المأوى له.
تهديد عابر للحدود
تواجه فرنسا تحديات كبيرة من الجالية الأفريقية والمغاربية التي هاجرت منذ سنوات، وتخشى أن يفضي اتساع الحرب في ليبيا إلى تسارع وتيرة الهجرات غير الشرعية إليها، ووجدت أن وقف هذه المسألة يتم من منبعها في الأراضي الليبية أولا، وعبر التعاون مع جهات إقليمية فاعلة، خوفا من انفجار طوفان جديد من الهجرة.
اتفقت فرنسا ومصر على هذه القاعدة، التي احتاجت لمزيد من التعاون الأمني، ولم تتمكن الأولى من تعميمها مع كل من تونس والجزائر، ولكل منهما حسابات مغايرة عن باريس، ولذلك رأت أن التنسيق مع القاهرة يحقق لها مطلبا ملحا.
وجدت القاهرة في باريس حليفا جيدا في هذه الأجواء الملبدة بالغيوم الأمنية التي ظهرت فيها مواقف غالبية الدول الأوروبية متناقضة، حيث مالت إلى التعامل مع تركيا بطريقة مليئة بالنفاق السياسي والعسكري، بينما حافظت فرنسا على درجة عالية من الوضوح، ولم تتأثر بأية ضغوط غربية أو ابتزاز تركي، وصمدت كثيرا أمام المناورات التي تمارسها أنقرة، وأخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على عاتقه مهمة فضح أكاذيب أردوغان، ما أسهم في توطيد العلاقة مع الرئيس السيسي.
وظهرت تجاليات التعاون في الاتصالات والمشاورات المتتالية بينهما بشأن آليات التعامل العسكري والسياسي مع الأزمة الليبية، حتى وصلت إلى مستوى نوعي لم تبلغه علاقة أي منهما مع جهات أخرى تقريبا، وتمت إزالة الكثير من عناصر الالتباس التي صاحبت كلا منهما حيال الآخر في بداية الأزمة.
حرصت القاهرة على التوفيق في علاقتها مع كل من فرنسا وإيطاليا عندما كانت المسافات بينهما متباعدة في الأزمة، وزادت المؤشرات الراهنة من التكاتف مع الأولى، لأن مواقفها أكثر وضوحا وأشد صرامة من الثانية، والتي لا تزال تفاضل في علاقاتها بين الطرفين الرئيسين في الأزمة، ولا تخفي انحيازها أحيانا لحكومة الوفاق، وبالتالي الاحتفاظ بمسافة بعيدة عن القاهرة، التي وجدت أن ما يجمعها من تفاهمات مع باريس يمكنها من التأثير بقوة في جوانب رئيسية في مساري الأزمة العسكري والسياسي، خاصة أن الولايات المتحدة لا تزال مواقفها قاتمة.