"الأوب آرت".. فن خداع البصر

الأوب آرت أو الفن البصري هو جنس من الفن ظهر في أوائل الخمسينات، ويعتمد على إيهام الناظر بأشياء غير واقعية، تخدع البصر فيخيّل إليه أنها تتحرّك وتتموّج وتتذبذب والحال أنها ثابتة، ما جعل النقاد يصطلحون على تسمية الأوب آرت بفن الوهم البصري.
الأوب آرت (تصغيرا لـOptical Art) مصطلح تبنّته مجموعة من الفنانين التجريديين كانت تشتغل على الآثار البصرية وخداع الحسّ، وقد تمّ إقراره فعليا عام 1965 عقب معرض أقيم في متحف الفن الحديث والمعاصر بنيويورك تحت عنوان “العين المتلقّية”.
وقد مثّل هذا التوجّه قطيعة تامّة مع وظيفة التقليد في الفن، تقليد الطبيعة وما تحويه من كائنات وأشياء، وانفصل نهائيّا عن الواقع ليمنح المتفرّج موقعا جديدا هو موقع الفاعل، إذ إنه يضع جسد المشاهد في وضعية غير ثابتة، متأرجحا بين المتعة وعكسها، غارقا في إحساس بالدوران، دون أن يبحث له عن تأويل، لأن الأثر خال عمدا من إمكان التأويل، ولا يحمل غير جماليات مبتكرة.
وهم افتراضي
بخلاف الفن الحركي “سينيتيك” الذي تجلت إرهاصاته في بداية القرن الماضي مع ظهور المستقبلية وبعض أعمال مارسيل دوشامب وألكسندر كالدر، ويقترح أعمالا تتضمن جوانب متحركة، بفعل الريح أو الشمس أو محرّك أو متفرّج، فإن آثار الوهم التي تنتجها أعمال الأوب آرت تظل افتراضية، لا تسجَّل إلاّ على صفحة الشبكية، ما يعني أن العين هي محرك العمل الفنّي، ولا محرّك له سواها. والملاحظ أن ثمة أعمالا تمزج بين الأسلوبين وتوصف بفن الوهم البصري السينيتيك.
ذلك أن يميّز الفن البصري معالجة اللوحات بكيفية خطوطية تتبدّى على صفحاتها وتُحدث ردود فعل بصرية لدى المتفرج، حيث فضاءات جميلة ولكن ملتبسة توحي بالحركة بفضل أساليب متعددة منها التصرّف في الرسوم الهندسية وجعل الألوان بعضها جنب بعض، واستعمال الضوء الاصطناعي، أو البلاستيك الشفاف. واختلف مؤرخو الفن في تحديد نشأة الفن البصري، بعضهم يؤكّد أنه وريث اهتمام بعض الفنانين بقوانين البصريات ونظرياتها في الفترة الواقعة ما بين 1910 و1920، خاصة في إطار باوهاوس حيث كان الروسي فاسّيلي كادينسكي والألماني جوزيف ألبرس والسويسري يوهانس إيتّن يدرّسون.
وكانت هذه المدرسة قد تأسّست في ألمانيا عام 1919 لاستكشاف جماليات حديثة، وكان طلبتها يتعلمون مبادئ اللون والصبغة بكيفية مهيكلة، وكيف أن اللون يدرك بحسب الظرف الذي يوجد فيه، فبعض الألوان مثلا تتذبذب إذا وضعت بعضها في مواجهة بعض. وكان ألبرس قد أجرى بحوثا آلية عن نسبية الألوان وعدم ثباتها.
بينما يرى آخرون أن ذلك كان من بين بحوث السينيتيك، أي التعبير عن الحركة الحقيقية في الفن، التي يمكن أن يحدثها أي عامل طبيعي أو آليّ، وقد جرّبها مارسيل دوشامب باستعمال أسطوانات دوّارة تحدث أوهاما بصرية.
وفي أواسط الأربعينات، ظهر جيل جديد من الفنانين، بقيادة الفرنسي من أصول مجرية فيكتور فازاريلي، قام بالبحث عن إمكانات تعبير غير مسبوقة، وكان من بين من سار في إثره الفنزويلي خيسوس رفائيل سوتو، والإسرائيلي يعقوب أغام، والسويسري كارل غرستنر، والأرجنتيني خوليو لوبارك، والإيطالي جيتوليو ألفياني، والإسباني أنخيل دوارتي إلى جانب الفرنسيّ فرنسوا موريّلي. ثم راجت هذه الجمالية فتبناها عدّة فنانين في الولايات المتحدة وبريطانيا كبريجيت رايلي وكيلّي إيلسورث.
والثابت أن بدايات الأوب آرت حافظت على هذه الثنائية بين الأسود والأبيض، ثم صارت أعمال الفنانين المنتمين إلى هذا الاتجاه تتميّز بخلق صفحات كثيفة الزينة والفروق.
ولما كان إدراك العين للون ما رهين الظرف الذي يتبدّى فيه ذلك اللون، فإن تجاور لونين يمكن أن يؤدّي إلى نوع من التكثيف والاستحكام، وهو ما أثبته غوته، وميشيل شوفرول منذ القرن التاسع عشر، ثم جربه الانطباعيون الجدد أمثال جورج سورا، وبول سينياك وهنري إدمون كروس.
وفي العام 1961، تمّ تأسيس غراف (الأحرف الأولى لمجموعة البحث في الفن البصري) بباريس، وكان من بين مؤسسيها خوليو لوبارك، وقد ضمّت المجموعة الإسباني فرنسيسكو سوبرينو، والأرجنتيني هوراثيو غارثيا روسي، وجويل ستان، وجان بيير فازاريلي وفرنسوا موريلي، وكانوا يستعملون موادّ جديدة، متأتية من المجتمع الصناعي، كالبليكسيغلاس والنيون، بينما اختار آخرون خلق أنصاب خاصة بهم.
بدأ هذا الاتجاه يتجسّد على أرض الواقع بعد معرض أول أقيم في متحف الفنون الزخرفية بباريس عام 1964 بعنوان “اتجاه جديد: مقترحات بصرية لحركة عالمية”، ثم تلاه معرض نيويورك المشار إليه أعلاه، وكان منظمه الأميركي وليم سيتز الذي كان له دور كبير في نشر هذا الفن في الولايات المتحدة، بينما كان رواق دونيز روني سنده الأول في باريس.
وقد تفرّع الاتجاه إلى مجموعات كثيرة عبر العالم، نذكر منها “نوفي تاندنجي” في يوغسلافيا، و“زيرو” و“نووي تاندنتسين” في ألمانيا، و“غروبو إن”، و“غروبو تي” في إيطاليا، لا تلتقي إلاّ في المعالجة البصرية للوحة.
وقد شكل ظهوره نوعا من التهديد للحركات الصاعدة، التي قامت على مقاربة واضحة للفن، فالتجريدية الهندسية، المنبثقة عن التكعيبية والتعبيرية التجريدية، جاءت لتعبّر عن تعقّد الإنسان والعالم المعاصر، بينما الأوب آرت لا يدّعي نشر معنى ما، ولا يحمل أي عمق مرجعي، بل إن حساسية المبدع وثقافته تمّحيان تماما، كما أن الأثر الفني لا يستدعي ذهن القارئ بل جسده، ما جعله أقرب إلى فن الزخرف والتسلية والموضة.
ومن ثَمّ لم يلق الأوب آرت قبولا واسعا، فلا جديد فيه حسب النقاد غير تحويل القيمة الفنية نحو التجربة الإدراكية. ولم ينتشر إلاّ بعدما تلقف جمالياتِه عالمُ الدعاية الإشهارية والديزاين.
أعمال مؤسسة
على المستوى المجتمعي، انطلق أتباع هذا الاتجاه من مبدأ أن العمل الفني لا يحيل إلاّ على نفسه، وأن إنجازه ينبغي أن يكون تجريبيا، يستند إلى المعارف العلمية للإدراك البصري، فهم يقفون موقفا مضادّا من الصورة التقليدية للفنان الموهوب، وعبادة العمل الفريد. غير أن نقادا كثيرين ظلوا يعتبرون أن هذا الاتجاه لا يخرج عن كونه جملة خدع وأوهام بصرية، صالحة للتزيين والزخرفة، وينقصها الحس العميق.
ورغم ذلك لا نملك إلاّ أن نسجل انبهارنا بأعمال فنية رائعة كتلك التي أنجزها فيكتور فازاريلي (1906 – 1997)، هذا الفنان الفرنسي الجنسية، المجري الأصل، الذي يذكر اسمه في كل المدارس الحديثة، فقد قاوم بشدة فكرة أن يكون الفنان شخصية ذاتية المركز، ولذلك لم يكن يترك على لوحاته أي أثر لهويته.
تميز فازاريلي بتنوّع تجاربه، فقد اشتغل في الثلاثينات على الرسوم الإشهارية أول قدومه إلى باريس، ثم أنجز بعدها لوحة “زيبرا” (الحمار الوحشيّ) تلك التي شكلها بخطوط سوداء وبيضاء منحنية أو متوازية ومتقاربة ليعطي انطباعا بصورة ذلك الحيوان في أبعاد ثلاثة. وقد أعاد هذه التقنية في لوحة أخرى تصوّر حمارين وحشيين يلتوي عنق كل واحد على عنق الآخر، ثم لوحة “ركض حمار وحشي”. وكان فازاريلي وراء إنشاء دونيز روني رواقها في قلب باريس، واعترافا بجميله كانت تعرض أعماله بصفة منتظمة.
وواصل تجاربه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأعمال تختلط فيها مستوياتها بشكل يربك البصر، مثلما أعدّ الطلاء المشقّق في محطة ميترو دنفير روشرو، وهو الأسلوب الذي ستتوخاه من بعده الأميركية إيلزورث، أما هو فقد عاد بعدها إلى مربع ماليفيتش في مرحلة عرفت بالأسود والأبيض ما بين 1951 و1963، انتقل فيها من تجربته في الليتوغرافيا (الطباعة الحجرية) إلى تراكيب بصرية توحي بعمق في الفضاء.
وبرغم كل ما قيل عن الأوب آرت، فإن فنانين محترفين يؤكّدون أن هذا الاتجاه فتح الباب أمام سؤال عميق: ما هي الواقعية البصرية؟ هل هي ما يرى المشاهد، أم ما يتوهم أنه يشاهدها، وما هي إلاّ من وحي خياله؟