الهجرة العكسية مغامرة تغري المتعبين من ضجيج المدن

استقرار ذوي الدخل الثابت في المدن الصغيرة يرفع مستوى جودة حياتهم.
السبت 2020/07/04
المدن لا توفر الرفاهية دوما

حلم الاستقرار بعيدا عن المدن المزدحمة والاستقرار في مناطق “نائية” وهادئة لأسباب مختلفة يراود كثيرين خاصة إن كانوا من أصحاب الدخل الثابت، لكنه في الوقت ذاته يناقض الإحصائيات العالمية التي تفيد أن الهجرة إلى المدن الكبرى ترتفع بشكل مستمر.

لندن “كل مرة كانت إجازتي تقترب من نهايتها وأبدأ في حزم حقائبي للعودة إلى العاصمة ينقبض قلبي، كنت كل مرة أتمنى ألا أعود، أن أستقر هنا في بلدتي إلى جانب عائلتي، تمنيت كثيرا لو تفتتح الشركة فرعا في بلدتي، لكن الأمر كان مستحيلا وقتها، على الأقل تفتح فرعا في سليانة القريبة (في الشمال الغربي التونسي)”، يقول الخبير الاقتصادي التونسي يوسف (55 عاما) المتقاعد حديثا من شركة مقاولات دولية لها فرع في العاصمة التونسية.

ويضيف “كنت كل مرة أذهب فيها إلى العاصمة أكون محملا، صندوق السيارة ممتلئ بالبضائع التي يضعها والداي، وهذه البضائع ربما ليست قيمة، لكنها أفضل ما في العالم، لأنها مليئة بالحب”.

ويتابع “إن الأمر ليس جديدا حقيقة فقد بدأ منذ التحقت بالجامعة لدراسة الاقتصاد والتصرف بعد حصولي على شهادة الباكالوريا بامتياز في جامعة في العاصمة التونسية”.

يقول الرجل الذي قرر اقتناء ضيعة صغيرة في منطقته والاستقرار فيها “إلى هنا أنتمي، لم أحس يوما أنني أنتمي إلى حيث أعمل رغم 25 عاما قضيتها في العاصمة”.

ليس يوسف الوحيد فكثيرون يحكمهم الحنين ويتمنون العودة إلى مسقط رؤوسهم للاستقرار، وآخرون يتمنون مغادرة المدينة الكبيرة المزدحمة إلى مدن أصغر حجما، حتى لو لم تكن مدنهم الأصلية أين ينعمون بالهدوء، لكن الأمر يعد “مغامرة غير محسوبة العواقب”.

هجرة بسبب الظروف

وتحدثت المدونة المصرية جنة عادل، طبيبة أسنان (32 سنة) عن هجرتها من القاهرة إلى دهب، التي تقع في محافظة جنوب سيناء. وتقول جنة إنها كانت قد اتفقت مع صديقها أن تكون دهب هي وجهتهما بعد التقاعد، لكن، بعد مرور شهور على هذا الاتفاق، تركت صديقها وعملها، ودخلت في دوامة من الاستدانة وعدم القدرة على تحمل الحياة في القاهرة، لذلك قررت الذهاب لدهب للعمل كمتطوعة في “كامب” مقابل السكن والطعام.

وتحكي جنة عن أن الحياة في دهب موفرة للغاية، خصوصا في ما يتعلق بالسكن والانتقالات. حكاية جنة لم تكن الأولى، لكنها كانت إحدى أشهر الحكايات نظرا لوضع جنة كمدونة، وهو الأمر الذي جعل تجربتها محط أنظار الكثيرين.

الأسباب الحقيقية للهجرة الداخلية تتمثل غالبا في البحث عن فرص العمل أو مواصلة الدراسة في الجامعات غير المتوفرة في المناطق الداخلية

حلم الاستقرار بعيدا عن المدن المزدحمة والاستقرار في مناطق “نائية” وهادئة لأسباب مختلفة يناقض الإحصائيات العالمية، إذ تفيد أن أكثر من نصف سكان العالم (4.2 مليار نسمة) يعيشون في المدن. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد، ليصبح حوالي 68 في المئة من سكان العالم يعيشون في المناطق الحضرية بحلول عام 2050.

وفي تونس مثلا، تشير الإحصاءات إلى أنّ مليون نازح أغلبهم من الشباب، هجروا مناطقهم إلى العاصمة ومدن الساحل التونسي خلال السبع سنوات الأخيرة، فيما تعتبر العاصمة أكبر حاضرة مستقبلة للشباب الباحث عن موارد الرزق، لتوفر خدمات أفضل في النقل والتعليم والصحة مقارنة بحياة المدن الداخلية الصعبة.

وتشير أغلب الدراسات إلى أنّ الأسباب الحقيقية للهجرة الداخلية تتمثل غالبا في البحث عن فرص العمل أو مواصلة الدراسة في الجامعات غير المتوفرة في المناطق الداخلية. ظاهرة خلقت تفاقما للضغوط العمرانية وظهور ما يعرف بالتصحر الديموغرافي في عدد من المناطق.

كما كشف التقرير الأخير الذي أصدره المعهد الوطني للإحصاء في تونس أنّ أكثر من 70 في المئة من سكان تونس يعيشون على طول الساحل الشمالي والشرقي للبلاد، فيما بيّن أنّ المناطق الجاذبة لموجات الهجرة الداخليّة هي إقليم تونس الكبرى.

وقد أكدت دراسة المعهد أنّ البحث عن العمل أو الدراسة والزواج تعد أهم أسباب الهجرة الداخلية. وقد تصدر البحث عن العمل قائمة دوافع الهجرة الداخلية بنسبة 20.7 في المئة. كما ذكرت دراسة حول التفاوت بين المناطق، من إعداد الباحث في علم الاجتماع المتخصص في الديموغرافيا حسان القصار بالتعاون مع البنك الدولي، أنّ العمل يحتلّ صدارة أسباب الهجرة الداخلية في تونس بنسبة 64 في المئة.

ويحتكر إقليم الشمال الشرقي وتونس الكبرى قرابة 25 في المئة من مواطن الشغل، في حين لم تتعد هذه النسبة الثلث في الأقاليم الغربيّة.

وتشكل الهجرة من الريف إلى المدن الكبيرة والعاصمة هاجسا كبيرا للدولة والمهمومين نظرا لنتائجها الوخيمة على المهاجر والمدن نفسها تتمثل في توقف عجلة الإنتاج في مناطقه التي تكاد تخلو من السكان جراء هجرتهم إلى المدن الكبيرة التي أيضا باتت تنوء بحمل تعجز عن حمله، وتسبب إرباكا كبيرا في تقديم الخدمات كما أفرزت مجتمعات فقيرة تعيش في مستوطنات عشوائية، تتوالد فيها الجريمة بكل أشكالها.

البحث عن الأمان

العواصم تمثل عبئا على السكان من ذوي الدخل المحدود
العواصم تمثل عبئا على السكان من ذوي الدخل المحدود

في الجزائر، تشهد أرياف محافظة تبسة، منذ ظهور وباء كورونا، مثلا هجرة جماعية غير مسبوقة، لبيوت كانت إلى وقت قريب خالية من السكان لسنوات، لتبرز ظاهرة هجرة جماعية عاجلة نحو الأرياف من جديد، أعادت الحركية إلى بعض المناطق النائية وبعض القرى والمساكن المهجورة، وبعثت الروح إلى مساكن كانت مقفرة.

وغيّر فايروس كورونا نمط الحياة وقلب بعض المعادلات ولو مؤقتا، إذ عززت فكرة التباعد الاجتماعي الهجرة العكسية نحو الأرياف بحثا عن الأمان.

وتظهر البيانات أن الهجرة العكسية من المدن الكبيرة لذوي الدخل الثابت تؤدي إلى زيادة الدخل بالإضافة إلى ارتفاع مستوى جودة الحياة.

وكانت دراسة سعودية لبيانات التضخم بين المدن السعودية أعدت عام 2016، أكدت أن الهجرة العكسية من المدن الكبيرة لذوي الدخل الثابت (الموظفين لاسيما المتقاعدين منهم) تؤدي إلى زيادة الدخل الحقيقي بنسبة تتجاوز 22.1 في المئة، يضاف إلى ذلك ارتفاع مستوى جودة الحياة لاسيما انخفاض درجة التلوث والزحام، وبالتالي يمكن تعويض ارتفاع تكاليف المعيشة في المدن الكبيرة (أو انخفاض مستوى الدخل بعد التقاعد) بالانتقال من المدن الكبيرة إلى المدن الأقل كثافة سكانية.

وباتت الهجرة العكسية من المدن إلى القرى الخيار الأنسب، خصوصا أن معظم القرى المنتشرة باتت تتوفر فيها الإمكانات اللازمة من متطلبات الحياة المعاصرة بالإضافة إلى توفر المدارس بكافة مراحلها وتوفر كليات في المدن المتوسطة القريبة.

وعلى مدى السنوات الماضية، شهدت هذه المناطق طفرة في مشاريع البنية التحتية وأصبحت البلدات والمدن التي كانت يوما تعتبر “نائية”، متصلة بالطرق السريعة وتتوفر فيها الخدمات التعليمية والصحية وبالتالي أصبحت خيارا جذابا للعائلات الباحثة عن كلفة معيشية أقل.

وفي ظل الظروف الاقتصادية باتت المدن الكبيرة وفي مقدمتها العواصم تشكل عبئا على ساكنيها خصوصا ذوي الدخل المحدود وأصحاب الرواتب المتدنية، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات والازدحام المروري، لذا أصبح السكن والعيش في القرى والأرياف مطلب كثيرين وخصوصا ممن كانوا يقطنونها في السابق وأجبرتهم ظروف العمل والدراسة على مغادرتها.

ويشير المطور العقاري عبدالله رعد إلى أن الهجرة العكسية من المدينة إلى الريف منطقية وتعود بالنفع المادي على الشخص.

“هناك وظائف في قطاعات الإنشاء والضيافة والطب والتمريض” بهذه الكلمات اختصر عبدالله قائمة الوظائف والمهارات التي يكون أصحابها أوفر حظا من غيرهم في الريف وبإمكانهم اقتناص الفرص المتوافرة هناك.

وبعيدا عن الوظائف في الريف، أصبح بمقدور الكثيرين نقل وظيفتهم معهم فالعمل في ظل جائحة كورونا تطلب من الشركات السماح للموظفين بالعمل من المنزل منذ مارس وعلى نحو لم يؤثر على الإنتاجية. ويقول وكلاء عقاريون إن تغير شكل الوظائف قد يلعب دورا حاسما في تشكيل موجة هجرة عكسية إلى الريف والمدن الصغرى بعد اختفاء الحاجة إلى السكن قرب المراكز التجارية للمدن والتي غالبا ما تضم المقار الرئيسية لكبرى الشركات والمصارف.

جودة الحياة

عوامل عديدة تتحكم في مدى تأثير البيئات على صحة الإنسان، من بينها خلفية الشخص الثقافية وتجاربه وظروف الحياة
عوامل عديدة تتحكم في مدى تأثير البيئات على صحة الإنسان، من بينها خلفية الشخص الثقافية وتجاربه وظروف الحياة

دفع الخوف من التلوث أو الضغوط النفسية كثيرين إلى الانتقال من المدينة إلى الريف، ولكن هل تزيد الحياة في الريف من السعادة وتحسّن الصحة بالفعل؟

يقول خبراء إن نتائج الأبحاث المتوفرة لا تكفي للاستدلال على البيئات الأفضل للصحة. وقد شرع علماء مؤخرا في دراسة العلاقة بين الصحة النفسية والبدنية وبين البيئة التي نعيش فيها، واكتشفوا أن ثمة عوامل عديدة تزيد من مزايا بيئة بعينها أو تنتقص منها، سواء أكانت هذه البيئة هي مدينة مكتظة بالسكان أم شاطئا مهجورا. وكشف الباحثون عن عوامل عديدة تتحكم في مدى تأثير البيئات على صحتنا، من بينها خلفية الشخص الثقافية وتجاربه وظروف الحياة، والمدة التي يقضيها في الهواء الطلق، ونوعية الأنشطة التي يمارسها في هذه البيئة.

وتشير الأدلة، بشكل عام، إلى أن المساحات الخضراء مفيدة لسكان المدن. إذ يتعرض من يعيشون بجوار المتنزهات أو الأشجار لمستويات أقل من تلوث الهواء والتلوث السمعي الناتج عن الضجيج، ويستمتعون بتأثير المتنزهات في تبريد الهواء (وهذا الأثر تزداد أهميته كلما ارتفعت حرارة الأرض).

وربط أحد الأبحاث بين الزمن الذي يمضيه الناس وسط الطبيعة وبين انخفاض الأعراض التي تنذر بوجود ضغط نفسي. وذلك لأننا عندما نتنزه سيرا على الأقدام أو نجلس تحت ظلال الأشجار، تنخفض معدلات دقات القلب، وكذلك ضغط الدم، وتُطلق أجسامنا عددا أكبر من “الخلايا القاتلة الطبيعية”، وهو نوع من الخلايا اللمفاوية (خلايا الدم البيضاء) التي تسبح في مجرى الدم لمطاردة الخلايا السرطانية والخلايا المصابة بفايروسات.

وقد أرجع باحثون هذه العلاقة بين الصحة وبين الهواء الطلق إلى عدة افتراضات. تقول أمبر بيرسون، الخبيرة في مجال جغرافية الصحة بجامعة ميشيغان “معظم الباحثين يعللون ذلك بأن البيئات الطبيعية تساعد على الاسترخاء والتهدئة بعيدا عن ضغوط المدينة. وينزع البشر إلى تفضيل البيئات الطبيعية لأنها كانت أحد الأسباب الرئيسية التي ساعدتنا على البقاء منذ الأزمنة الغابرة”.

ولكن هذا لا يعني أن سكان المدن يجب أن ينزحوا جميعا إلى الريف. إذ بينما ترتفع نسب الإصابة بالربو والحساسية بأنواعها والاكتئاب بين سكان المدن، فقد أشارت دراسات إلى أن نسب السمنة أعلى بين سكان المناطق الريفية، وأن سكان المدن أقل عرضة للانتحار والاستهداف في حوادث القتل، فضلا عن أن كبار السن في المدن أسعد حالا وأطول عمرا من نظرائهم في المناطق الريفية.

20