إشكاليات جامعة الدول العربية مع الأزمة الليبية لا تتوقف

أثارت التصريحات الأخيرة لحسام زكي الأمين العام المساعد للجامعة العربية بشأن ليبيا جدلا واسعا وسلطت الأضواء مجددا على دور هذه المنظمة في معالجة ملفات المنطقة الساخنة ولملمة الجراح العربية. وعلى الرغم من إقرار المتابعين لعجزها السياسي في صياغة حلول حقيقية واكتفائها ببروتوكولات روتينية، فإن زكي استغلّ المغالطات الإعلامية التي زعمت دعم الجامعة لحكومة الوفاق بناء على تأويلها لتصريحاته، ليؤكد بشكل حاسم أن الجامعة تدين بشدة التدخلات التركية في ليبيا وستبقى دائما شوكة في حلق تركيا وجماعات الإسلام السياسي.
تملك الجامعة العربية تاريخا حديثا قاتما مع ليبيا، حيث رسخ في الأذهان أنها منحت تحت قيادة أمينها العام الأسبق عمرو موسى، منذ حوالي تسعة أعوام، الضوء الأخضر لحلف شمال الأطلنطي (ناتو) لغزوها وإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي بالقوة، وما تلاه من وقائع مأساوية لا تزال فصولها مستمرة حتى الآن، وفشلت كل تبريرات موسى لاحقا في محو الدور السلبي للجامعة، ولم ينته النقاش تماما، وظل يظهر ويختفي كلما كانت هناك مناسبة لها أو مشاركة هامشية في التفاعلات السياسية.
عاد الجدل خلال الأيام الماضية إثر مداخلة هاتفية أجراها السفير حسام زكي، الأمين العام المساعد للجامعة العربية، مع قناة “تن” المصرية، مساء الأربعاء، حيث خرجت بعض وسائل الإعلام التابعة لجماعة الإخوان وتركيا، بترديد عبارات أظهرت زكي كأنه يعتبر التدخل العسكري التركي في ليبيا قانونيا، ويؤيد شرعية حكومة الوفاق الوطني دون التفات لملاحظاته الدقيقة حول القضيتين، ومن هذا الباب المثير عاد الحديث عن الجامعة إلى الملف الليبي.
مغالطات إعلامية
أدى انتشار كلام زكي وتفسيراته المتباينة إلى استنتاجات كثيرة، بعضها قال إن الجامعة العربية غيرت موقفها السابق، وعلى وشك الاعتراف بالأمر الواقع في طرابلس، ويميل لصالح أنقرة وحليفتها حكومة الوفاق وحزمة واسعة من الميليشيات والمرتزقة والإرهابيين.
والبعض ذهب إلى أنها محاولة للانفتاح على كل القوى الليبية لضمان نجاح مبادرة القاهرة الأخيرة للتسوية السياسية، ويمكن سرد جملة التكهنات والتخمينات، كلها تصب في صالح تركيا والوفاق وشركائهما، وأن معارك طرابلس وغرب ليبيا ستكون لها إفرازات سياسية أيضا.
بعد يوم واحد من اشتعال الحرب الكلامية بين معسكري الـ”مع وضد”، وما بينهما من ألوان سياسية، خرج زكي على فضائية “العربية الحدث”، ليقول إنه تم اجتزاء تصريحاته وليّ أعناقها لصالح جهات معينة، موضحا أن التدخل التركي في ليبيا والشمال الأفريقي عليه علامات استفهام كبرى وتعرض لانتقاد عربي واسع، وموقف الجامعة محكوم بقرارات الدول الأعضاء، وعلى مدار 15 دقيقة ظل السفير (المصري) يؤكد على عدم مشروعية التدخل التركي، وأن موقف الجامعة لم يتغير.
تدخلات القوى الكبرى في الأزمة الليبية أخرجتها من الدائرة العربية، وجعلت مفاتيح التصعيد والهدوء في يد هؤلاء
كان مجلس وزراء الخارجية العرب رفض، في مارس الماضي، التدخلات الخارجية أيا كان نوعها ومصدرها في ليبيا واستجلاب المقاتلين الأجانب إلى البلاد، في إشارة واضحة إلى تركيا التي أرسلت معدات عسكرية ومرتزقة وإرهابيين للقتال بجوار حكومة الوفاق، وجرى تمرير قرار بهذا الشأن وسط اعتراض وتحفظ طفيف من بعض الدول.
عندما قرأت كلام السفير زكي، وفقا للنص الذي أوردته وكالة الأناضول صباح الخميس، تشككت في المحتوى الذي بثته، بحكم معرفتي بموقف الجامعة العربية من ليبيا، وتوقعت أن يكون هناك تصويب وتصحيح، حيث أحدث الخبر دويا من التفسيرات السياسية، إلى أن نفى زكي الكثير من المغالطات التي أوردتها الأناضول ومن لفوا لفها في المجال نفسه.
ليست هذه المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تتعامل فيها وسائل إعلام تابعة لتركيا في الاجتزاء والتوظيف السياسي، وهي طريقة تنطوي على ما هو أبعد من “الفبركة” والفتنة، ويتعلق بالأمنيات الخفية، وغطرسة القوة المفتعلة، ومحاول التشويش على بعض التطورات، فبعد ردود الفعل الإقليمية والدولية التي أبدت موافقة على المبادرة المصرية حُشرت أنقرة في الزاوية، لأن المبادرة دعت لوقف إطلاق النار وإحلال السلام، بينما تركيا والوفاق تدقان طبول الحرب في سرت.
كشفت الواقعة عن دلالات كثيرة تتعلق بموقف الجامعة من ليبيا وهل يمكن أن تقوم بتحرك ما الفترة المقبلة، فمع أن حركتها السياسية محدودة ومتوقفة على مدى توافق الدول الأعضاء، غير أن هناك حساسية تاريخية تجاه التعامل مع الأزمة تضاعف من الإحجام عن التفاعل معها، ورثها المسؤولون عنها، ليست هي من قبيل التسليم بالضعف الموجود في كل القضايا العربية المطروحة عليها، بل لأن الأزمة جرى اختطافها مبكرا بعيدا عن الدائرة العربية.
تزامنت الضجة مع حديث تواتر مؤخرا بشأن الحصول على غطاء عربي لتنشيط خطط ومبادرات موضوعة على رف الجامعة تخول لأعضائها القيام بعمل عسكري لمواجهة الغزو التركي، وجاءت تصريحات زكي الأولى وتعديلها ثانية ليؤكدا أن الفكرة غير مطروحة عمليا، لأن الجامعة العربية لم ترسم لها دورا واضحا في الأزمة الليبية.
دخلت في مناقشات حول هذه المسألة مع مسؤول رفيع بالجامعة العربية لمعرفة السبب الحقيقي للضعف في الحالة الليبية وبما لا يتناسب مع الاقتراب منها في البداية، كانت إجابته تتمثل في انقسام الدول العربية، فالبعض يؤيد معسكر المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، والبعض ينتصر لفريق حكومة الوفاق، ولكل طرف حساباته التي بنى عليها موقفه.
أصبحت حركة الجامعة مقيدة أو منعدمة باستثناء المواقف والقرارات الروتينية التي تحظى بنسبة توافق عالية، وتأتي غالبيتها مخففة في صياغتها لتضمن مباركة أكبر عدد من الدول الأعضاء، ولا تغلق النوافذ مع المعسكر الآخر، وارتاحت إلى هذه الصيغة التي أبعدتها عن التجاذبات المعروفة في الأزمة الليبية، ولم تجرؤ على طرح مبادرة تعلم أن ولادتها أصلا ستكون ميتة، واكتفت بالتمثيل الرمزي في المؤتمرات الدولية.
أشار المسؤول الرفيع إلى حدوث تنافس مبكر بين الجامعة والاتحاد الأفريقي على أيهما يمكنه أن يقود مبادرة للحل، انتهت إلى خروج الطرفين من الملعب، وإذا كانت ارتفعت بعض الأصوات بشأن وضع الأزمة الليبية في العهدة الأفريقية مؤخرا وفشلت، فإن ذلك لم يظهر على الساحة العربية، ولم تبادر دولة قريبة أو بعيدة، ولو على سبيل المناورة، إلى طرح الفكرة، ما يعني أنها خارج الزمن بالتوقيتات المتلاحقة للأزمة في ليبيا.
تدويل الأزمات
كل الأزمات العربية، من فلسطين إلى سوريا وليبيا واليمن والعراق والصومال والسودان، جرى تدويلها بدرجات مختلفة، واختفى منها بصيص الأمل في دور فاعل للجامعة العربية، وبقيت الاجتماعات الدورية والبيانات المتعلقة ببعض التطورات هي الشاهد الوحيد على هذا الكيان، وفضّلت الدول المعنية التعامل مع أزمة ليبيا بصورة منفردة، تجنبا لأي احتكاكات عربية – عربية، ففي ظل التربص والمد والجزر من الصعوبة وجود توافق، ووسط التباعد في التقديرات يمكن أن تتحول الجامعة إلى ساحة لتصفية الحسابات وليس تكاملها.
اعترف المسؤول العربي الرفيع، أن تدخلات القوى الكبرى في الأزمة الليبية أخرجتها من الدائرة العربية، وجعلت مفاتيح التصعيد والهدوء في يد هؤلاء، ولذلك يوجه الخطاب السياسي إليهم أولا لمعرفة حدود الحركة الممكنة، فكما هناك “فيتو” أميركي على عودة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية، هناك شيء قريب من ذلك بالنسبة إلى ليبيا، يشمل واشنطن وغيرها من العواصم الكبرى، في ملف المبادرات والتسويات، ويصعب تجاهل توازنات القوى التي دوّلت الأزمة منذ بدايتها وحتى الآن، ولن تحصل الجامعة على فرصة للتدخل المباشر.
على ضوء هذه المعطيات، يمكن التعامل مع كلام السفير زكي على أنه تحصيل حاصل من فائض العجز السياسي، لكنه يكشف لأي درجة أن الجامعة العربية لا تزال تمثل غصة في حلق تركيا وتيار الإسلام السياسي، حتى لو كانت عاجزة عن أداء دورها، فهي في النهاية تبقى شاهدا على أن هناك مظلة عربية، إذا أُحسن توظيفها قد تمثل منغّصا معنويا للممارسات التركية في المنطقة، ولو في توفير الحد الأدنى من الرفض والإدانة لها.