"هي فقط نهاية العالم".. مسرحية تحذّر من مخاطر العودة إلى الماضي

باريس- نشأ جان لوك لاغارس (1957 – 1995) في وسط عمّالي، وزاول الفن الدرامي ثم الفلسفة، ثم عدل عن مناقشة رسالته الجامعية ليعمل في المجال المسرحي، كمؤلف وممثل قبل أن يمرّ إلى الإخراج، حيث تعامل مع نصوص لكبار المؤلفين أمثال ماريفو، ولابيش، وخاصة يونسكو، وبيكيت اللذين كان لهما تأثير على نصوصه الأولى.
انتقل إثر ذلك إلى التأليف، وركّز اهتمامه على العائلة والغياب، فألّف ثلاثيته “بعض انفراج”، “ندم أخير قبل النسيان” و”هي فقط نهاية العالم” التي أنهاها في برلين عام 1990، وهو يعرف أن أيامه معدودة، بعد أن علم بإصابته بالإيدز.
“هي فقط نهاية العالم” سبق أن تناوب على إخراجها فرنسوا بيرّور، وجويل جوانّو، وميشيل راسكين، وحوّلها إلى السينما الكندي غزافيي دولان عام 2016، قبل أن يقبل أوليفيي برودا على إخراجها مرة أخرى للمسرح، ليحقّق حلما راوده منذ 2006 عندما اكتشف مسرح جان لوك لاغارس عن طريق الممثل والمخرج فرنسوا رانسيّاك، وانجذب إلى هذا النص لأنه يعبّر عن الحالة النفسية التي مرّ بها بعد فقدان والده، ليعيش الموت من الدّاخل، مثل البطل الذي كان يعلم بقرب نهايته، بعد أن اكتشف الأطباء إصابته بمرض عضال.
المسرحية، رغم ما شابها من توتّر، تطفح بالحب والحنان، عبر عواطف تتبدّى كالهمسات، لمن يحسن الإصغاء إليها
هي حكاية بسيطة، قديمة قدم العالم، بطلها كاتب يدعى لويس، يعود إلى بيت أهله بعد غياب دام اثنتي عشرة سنة، ليعلمهم بأنه سيموت عمّا قريب. عاد أدراجه ليجمّع حصيلة مشاعره وحياته، ويعلن عليها الحداد قبل أن يطمسها النسيان، بل قبل أن يدركه الموت. يجد أمه وأخاه أنطوان وما بينهما من علاقات متوترة، وأخته سوزان التي تعتقد أن أخاها تلفّه الأسرار، ويكتشف كاترين زوجة أخيه، ولكن عودته ستثير ذكريات أليمة، وتخلق جوّا ما انفكّ يتوتّر حدّ الانفجار، فيغادرهم دون أن يفشي لهم سرّه، وفي النفس إحساس بأنه أخطأ حين عاد، وكأنه يستحضر أغنية باربرا “طفولتي”، وتقول فيها “ينبغي ألّا نعود أبدا إلى زمن الذكريات المخفي، زمن الطفولة المبارك، لأن ذكريات الطفولة هي أفظع الذكريات، لكونها تمزّقنا”. هذه الزيارة التي أرادها نهائية، آلت إلى فُرقة، فعاد كما جاء، وحيدا، بل أشدّ وحدة أمام الموت.
في جوّ تغلب عليه الكآبة، ولكن دون استدرار للشفقة، تصوّر المسرحية فضاء فوضويا على وشك الانفجار، وقد غمّه نسيان لم تبق منه غير آثار متفرّقة من حياة مضت. في بيت يهجره سكانه الواحد تلو الآخر، يبدو الفضاء، الذي يفصله ستار من البلاستيك، أشبه بلوحة تجريدية، وكأننا على حافة عالمين، يؤثّثه أشخاص أحياء يتواتر خطابهم بين ماضٍ تولّى وحاضر لا يزال منشدًّا إليه.
لم يكن البيت موطنا للغياب، بل هو مملوء كلمات، كلمات منتقاة، مشحوذة كحدّ سكّين، ما انفكت تتعالى عند عودة الابن الضّال، الذي ما عاد إلى أهله إلّا ليقول، مجرد قول، أن يعلن عن موته الوشيك والمحتوم، أن ينعى بنفسه موته، ثم ينصرف دون أن يبوح بشيء.
ذلك أن عودته فجّرت ذكريات كثيرة، وأعادت ما كانت العائلة تتكتّم عليه من توتّر وحقد وشعور بالعزلة، فتتداخل الأزمنة وتنقل المشاهد من زمن الطفولة إلى الزمن الحاضر ثمّ ترتدّ، لتكشف حينا عن جروح وأوجاع، وحينا عن حدّة الانفعال والتأثّر، ولكن أفراد هذه الأسرة غالبا ما يهملون الأساس، فهم يتصادمون ويثورون ويتخاصمون ويسكتون عمّا هو جوهريّ.
لقد كان أوليفيي برودا وفيّا للنص ولمسرح لاغارس الذي يقوم أساسا على اللغة، والعجز عن التواصل، وإضاعة فرص اللقاء، ويخلق مناخا شبيها بمسرح راسين، لكن دون تراجيديا، ومن ثَمّ اختار إخراجا أقرب إلى الحلم، رغبة منه في التأكيد على عدم زمانية المواقف التي يذكرها المؤلف، أي أنها غير مرتبطة بزمن معيّن، تماما كما في الأحلام التي لا نكاد نتبيّن الواقع فيها من الأوهام.
عندما سُئل عن سبب إقدامه على إخراج المسرحية، بعد أن راجت كشريط سينمائي حاز نجاحا معقولا، أجاب أن المخرج الكندي لم يلتزم بالنص الأصلي، وحوّل أجواءه إلى نوع من الهستيريا، بينما المسرحية، رغم ما شابها من توتّر، تطفح بالحب والحنان، ولكنها عواطف تتبدّى كالهمسات، لمن يحسن الإصغاء إليها، والإمساك بمفرداتها. ففي هذه المسرحية كما في سائر نصوص لاغارس، ثمة حبّ وذكريات وتصفية حسابات، ولكنها مَصوغَةٌ بشكل لا يخلو من طرافة، يدركه من لا يكتفي بالمظهر، بل ينفذ إلى أعماق العمل الفني، يسبر مغازيه.
يقول برودا “هذه المسرحية، برغم الموضوع المأساوي الذي تعالجه، تحتفي بالحياة، وتدعو الناس إلى التمتّع قدر الإمكان بما أنعم به الله عليهم. وتقيم الدليل من جهة أخرى على أننا يمكن أن نتحدّث عن الكوني من خلال الذّاتي”.