عبدالغني هامل صاحب نظرية اليد البيضاء خلف القضبان

اختصر المدير السابق للأمن الجزائري الجنرال عبدالغني هامل، مسيرة رجل عرف بمقولته الشهيرة “من يريد أن يحارب الفساد يجب أن تكون يداه بيضاء“ منتقلاً من خليفة محتمل للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في قصر المرادية، إلى سجين يُعرّف برقم في مؤسسة عقابية، بعد أن عثر بحوزته على عشرات الحسابات والعقارات والممتلكات، له ولأفراد عائلته بمن فيهم زوجته الماكثة في البيت وابنه المراهق.
حينما صفي المدير السابق للأمن الجزائري علي تونسي، العام 2010 بطلق ناري بمكتبه من طرف أحد رفاقه في قيادة جهاز الأمن، كان ذلك إيذانا بإطلاق بوتفليقة العنان لنفسه لينصب أحد المقربين منه على رأس جهاز ظل غير مرتاح لوفائه له، بسبب ولاء قائده الأول لأكبر خصومه آنذاك مدير جهاز الاستخبارات الجنرال محمد مدين ”توفيق“، فاستقدم الجنرال الشاب هامل من قوات الجيش إلى قيادة الأمن "الشرطة".
وعلى مدار ثماني سنوات قضاها الرجل في المنصب، تحوّل الجهاز من مجرد قوة تضطلع بالشؤون الأمنية الداخلية، إلى ذراع صلبة بفضل المكتسبات التي حققها على يده.
وتحت يافطة الحفاظ على الأمن ومحاربة الإرهاب، تغول الجهاز بشكل لافت من حيث العدد والعدة، حيث تجاوزت تركيبته البشرية الربع مليون فرد، أكثر من جهاز الدرك وقريبا من الجيش، واستحوذ في الغالب على موازنة وزارة الداخلية، إذ وصلت حصته خلال سنوات الأريحية المالية سقف الخمسة مليارات دولار.
مشروع رئيس فاسد
اكتسب هامل نفوذا قويا داخل السلطة وحتى منافسا لمؤسسة العسكر، لأن استراتيجية مراكز النفوذ كانت ترى فيه بديلا للجيش في معادلة الولاء والوفاء، فالسلطة باتت مطمئنة له، أكثر من اطمئنانها للعسكر، لأن الشكوك كانت تعتري دائما موقف العسكر، من مسألة تفرد قصر المرادية بالقرار السياسي في البلاد.
لكن الرجل الذي صنع هالة لنفسه في جهاز الشرطة، وحوله بمرور السنوات إلى قوة تزعج قوة الجيش من حيث العتاد والعدة، وطرح كواحد من الخيارات الممكنة لخلافة بوتفليقة بداية من أبريل العام الماضي، ما فتئ أن انتهى به المطاف بين أسوار سجن الحراش، بعد معركة مع ألد خصومه الأقوياء بدأت بكلمة وانتهت بعقوبة قاسية بالسجن النافذ ومصادرة الأملاك.
ويبدو أن غرور هامل غطت عليه التحولات المتسارعة في البلاد، فاحتواؤه للانتفاضة المفاجئة لأفراد وضباط جهاز الشرطة العام 2013، ومسيرتهم الشهيرة من مركزهم الجهوي بضاحية الحميز نحو قصر الرئاسة بوسط العاصمة وعلى مسافة نحو 20 كيلومتراً، للتعبير عن غضبهم من الوضع المهني والاجتماعي داخل الجهاز، وحتى الدعوة لرحيل الجنرال، انتهت دون أن تحرك عرش الرجل، وهو ما يكون قد اعتقده خطأ مع تداعيات شحنة الكوكايين الشهيرة.
ألصقت حينها انتفاضة الشرطة غير المسبوقة، بخلايا الدولة العميقة التي اتهمت بالتحرك للانتقام من الانقضاض الشرس لجناح الرئاسة على جناح جهاز الاستخبارات ورموزه الأقوياء، وتم احتواء الموقف بتفكيك النوى المتمردة داخل الشرطة، فالخصم القوي في الجيش، لم يترك الفرصة لجنرال الأمن من أجل لملمة فضيحة الكوكايين، واستغل الفرصة لتصفيته مهنيا واستراتيجيا شأنه شأن الجنرالات الآخرين الموالين لقصر المرادية.
الجنرال هامل لم يكن يدري أن التصريح الشهير الذي أدلى به لوسائل إعلام محلية حول الأيدي البيضاء، سيكلفه منصبه ويزج به في متاهات السجن والعقوبات القضائية، ويفتح عليه أرشيفا ثقيلا من الفساد المهول مارسه منذ أن كان على رأس الحرس الجمهوري بجهاز الدرك الوطني، إلى غاية آخر يوم في مشواره المهني.
ويذكر الجميع كيف حاول استدراك الأمر بالإيعاز لوسائل الإعلام بالتوقف عن نشر وبث تصريحه، أو إلحاقه بتوضيح يزيح عنه تبعات استشعرها متأخرا، إلا أن الرد جاء سريعا في مساء نفس اليوم، بصدور قرار تنحيته من منصبه، والتلويح بفتح ملفاته أمام القضاء.
ولأن رسائله كانت موجهة في الصباح لألد خصومه في السلطة، بغية تذكيره بغرق الجميع في مستنقع الفساد، وعدم جدوى التفكير في النيل منه لأنه يمتلك هو بدوره “ملفات سيساعد بها جهاز القضاء”، في تهديد مبطن لهم، إلا أن فورة الرجل القوي حينها في مؤسسة الجيش الجنرال قايد صالح، كانت عارمة وقوية، وضغط بكل الوسائل في الساعات الموالية، على سعيد بوتفليقة، الذي كان حينها لا يزال قويا في قصر المرادية، وتمت تنحية جنرال الشرطة والذراع الأمنية لجناح بوتفليقة من منصبه، في خطوة اعتبرت مقدمة لبداية تهاوي امبراطورية بوتفليقة.
التضحية بالجنرال
الفساد المالي والسياسي في الجزائر عقيدة متغلغلة في صلب المنظومة الحاكمة، غير أنه برز خلال الأشهر الماضية كذريعة ناعمة لتمرير معارك العصب المتصارعة في السلطة، وفي كل مرة تصعد عصبة وتسقط أخرى تكون ملفات الفساد والقضاء هي الحاسمة
لم يستطع رموز نظام بوتفليقة إنقاذ ذراعهم القوية من المصير المحتوم، فالرئيس المنتخب غائب أو مغيب عن شؤون البلاد، والشقيق والمستشار لم يستطع الوقوف أمام مد عصبية صالح، أو أنه اعتقد خطأ أن تنازله لرجل الجيش القوي بالتضحية بهامل، قد يقنعه بالاكتفاء بذلك، لكن الرجل تمادى في ضرب أركان النظام الذي صنعه ولم يسلم من سطوته حتى سعيد بوتفليقة نفسه، ورحل عن عالم الأحياء بشكل مفاجئ في ديسمبر الماضي، لكن معركة العصب وصراع الأجنحة التي بدأها منذ عامين لم تنته بعد، رغم قربه من النواة الصلبة للنظام وأدائه دور الذراع الأمنية التي تضرب كل من يعارضها، فضلا عن أنه كان يرى نفسه خلال التجاذبات المتفجرة طيلة سنوات حول مصير هرم السلطة في الجزائر، ومدى قدرة بوتفليقة على الاستمرار في قيادة البلاد، البديل والخليفة المناسب، خاصة وأن جولاته الخارجية لم تكن تخلو من تلميحات طلب الدعم من العواصم الفاعلة والمؤثرة في القرار الجزائري.
ويبدو أن الخصومة بين هامل وصالح كانت قد بلغت في صمت درجة كبيرة من التعقيد، وأن حادثة شحنة الكوكايين، لم تكن إلا القطرة التي أفاضت الكأس، ووظفتها قيادة الجيش للانقضاض على خصومها في رئاسة الجمهورية، واعتبرتها فرصة مواتية لضرب الأذرع القوية الموالية لبوتفليقة، حيث تم إقصاء جهاز الأمن كلية من عملية التوقيف والحجز والتحقيق، رغم أن العملية تدخل ولو نسبيا ضمن صلاحياتها، ما اعتبر إيذانا بنهاية نفوذ الجنرال القوي.
بلغت تصفية الحسابات مرحلة اللارجوع، وأسرت مصادر مطلعة، بأن الجنرال الراحل وقائد أركان الجيش، توعد في اجتماع ضيق بمساعديه خصمه بالمصير الأسود وبإنهاء اسمه من التداول على الألسن، فتمت إقالته ثم إحالته على القضاء وبعدها حبسه لخمسة عشر عاما نافذا.
ولأن الفساد المالي والسياسي في الجزائر تحول إلى عقيدة متغلغلة في صلب المنظومة الحاكمة، خلال العقود الأخيرة، فإن الفساد ظل خلال الأشهر الماضية يشكل الذريعة الناعمة لتمرير معارك العصب المتصارعة في السلطة، وفي كل مرة تصعد عصبة وتسقط أخرى تكون ملفات الفساد والقضاء هي الحاسمة في تصفية الحسابات.
فكما خاض الجنرال صالح معارك كبيرة بدعوى محاربة الفساد، ظل يوفر الحماية للبعض الآخر، واستطاع إلى حد ما تمرير أجندته السياسية وتصفية حساباته مع خصومه العلنيين والسريين، رغم الضغط الذي فرضه عليه طيلة عشرة أشهر الحراك الشعبي المطالب بإقامة ”دولة مدنية“.
وتذكر شهادات عيان بأن نجلي الرجلين صالح وهامل، تبادلا في إحدى المرات الطلق الناري الحي من أسلحتهما الشخصية، إثر خلاف نشب بينهما حول عقار في مدينة وهران بغرب البلاد، وهو سلوك لم يعد غريبا في ممارسات لوبيات المال والسياسة في الجزائر، خاصة خلال هيمنة ذهنية النهب على عقول قطاع عريض من رجالات السلطة.
وتقول إحداها، بأن نجل الجنرال هامل أزاح اللافتة الضخمة التي تلفت انتباه المسافرين عبر الطرقات السيارة، إلى الخروج من إقليم محافظة وهران ودخول إقليم المحافظة المجاورة ”عين تموشنت“، من أجل الإبقاء على معاملة تسوية ملف عقاره في إدارة وهران، دون أن يتحرك ساكن للمسؤولين المحليين.
مملكة آل هامل
كشفت المحاكمة التي طالت الرجل وزوجته وأفراد عائلته، عن ملفات فساد ضخمة، تتضمن عشرات الحسابات البنكية والعقارات والشركات والشقق والصفقات والمشروعات الربحية، لكل واحد من أفراد العائلة، بمن فيهم الزوجة التي تزعم أنها “ماكثة بالبيت”، أو البنت الصغرى التي تخرجت حديثا فقط من الجامعة.
أعطت أطوار المحاكمة الانطباع بأن الفساد المستشري في الجزائر خلال العقود الأخيرة، تجاوز كل حدود المنطق والمعقول، وصار عقيدة يؤمن بها ويمارسها قطاع عريض من رجالات السلطة، وأن أي مسعى لمحاربته خارج إطار تغيير سياسي شامل في البلاد، سيكون ذرّا للرماد في العيون، في ظل بروز بوادر تساوي عقوبة من كبّد الدولة مليارات الدينارات مع من ضبط بحوزته على فتات من المخدرات.
وسيدوّن التاريخ أن النظام العسكري في الجزائر، خرج في السنوات الأخيرة عن تقاليد التحفظ وأصول الضرب تحت الحزام من أجل حفظ سمعة الدولة، إلى تصفية حسابات علنية بين كبار الضباط ومراكز النفوذ، ولأول مرة صار الجنرال يمسي جنرالا ويصبح سجينا، أو يصبح جنرالا ويمسي محبوسا.
لم تعرف الجزائر المستقلة ارتباكا داخل أعتى مؤسساتها، كالذي عاشته في السنوات الخمس الأخيرة، حيث يتواجد عدد من الجنرالات داخل السجون، وبعضهم الآخر فار خارج الديار، والآخر في منصبه لكنه خائف على نفسه ومنصبه، أكثر من خوف أبسط عامل أو موظف في مؤسسة ما، وإذا كان الأخير يخشى في أسوأ الأحوال من التسريح الذي بات بالنسبة لهؤلاء يمثل أفضل النهايات لمشوارهم المهني.
وشاءت الأقدار أن تضم أسوار سجون البليدة العسكري، وسجني الحراش والقليعة المدنيين، غالبية من كانوا في خندق نظام بوتفليقة، ومن كانوا يناهضونه؛ ففي الأول يتواجد الجنرال توفيق خصم بوتفليقة في السنوات الأخيرة، مع خليفته عثمان طرطاق ”بشير“ الذي استعان به سعيد بوتفليقة لمسح تركة الأول، وغير بعيد عنهما يقضي عبدالغني هامل، عقوبته وهو الذي كان يحلم بالجلوس يوماً ما على كرسي الرئاسة.