كورونا لإسكات الصحافيين

هل حقّا أن الصحافيين والإعلاميين في طبعهم المشاكسة والمناكفة ومخالفة الرأي السائد؟
وهل أن في ما بينهم رابطا غير معلن كمثل شيفرة سرّية أساسها مخالفة الآخرين في الرأي أو العمل بمبدأ خالف تُعرَف؟
هذه الأسئلة وغيرها تثار مع تفجّر أزمة الوباء على نطاق عالمي.
الصحافيّون والإعلاميون والمدوّنون وأصحاب القنوات على يوتيوب وجدوا في أزمة الوباء موضوعا ذا أسبقية ما دام يشغل الرأي العام وأصبح قضية حياة أو موت.
شاهدت عمل بعض من هؤلاء ابتداء من بريطانيا إلى ألمانيا إلى الصين إلى بلدان عربية.
ليس الأمر متعلّقا بالمعلومات والإرشادات الطبية والوقائية وتاريخ المرض بل إن الأمر يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
في ألمانيا كان الصحافي والمدوّن يرصد كيف أثر الوباء في تغيير السلوك الاجتماعي للأفراد، ثم كان الريبورتاج الذي أنجزه إعلاميون ألمان وتم بثّه من خلال إحدى القنوات الألمانية كافيا لتقديم نمط عيش غير مسبوق.
نمط الاستهلاك والنهم في الشراء، بكاء الرجال بسبب فقدان فرص العمل، الشقق الصغيرة المكتظة بالمؤونة ولُعب الأطفال بينما الأب الذي يعمل في مجال الحسابات البنكية يحتاج إلى التركيز لأنه يعمل من المنزل.
لم يرد صانعو الريبورتاج انتقاد الإجراءات الحكومية في تقديم صورة سلبية من الواقع لأناس مبعثرين وفاقدين لأعمالهم وحياة مزرية يعيشها أناس معزولون بل أرادوا نقل صورة من الواقع.
في الصين يقدم صاحب قناة على يوتيوب يوميات الحجر في بكين ومدن أخرى، لكنه يشير بين حين وآخر إلى أن نقل الحقيقة كاملة فيه مخاطر، في المقابل يعرض صاحب القناة قصصا عن استخدام الكاميرات الحرارية وكاميرات التعرف على الوجوه والتطبيقات والكثير من الوسائل المخابراتية التي اتبعتها السلطات الصينية تحت غطاء تتبع مسار الوباء والمصابين به.
هذا هو واقع الحال، وليس تشويها ولا تجميلا لما يجري في الصين وحيث نظرية المؤامرة قد وصلت إلى أقصاها بتسمية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الفايروس بأنه فايروس الصين.
الرئيس الأميركي نفسه يقدم في كل يوم تقريبا ما يشبه الـ”شو” التلفزيوني، من خلال مؤتمر صحافي لعرض آخر مستجدات تفشي الوباء ومقتل عشرات الآلاف من الأميركيين بسببه.
خلال عرض الرئيس اليومي يقول البعض إنه استثمر الفرصة لكي يصفي حساباته مع الصحافيين والإعلاميين الذين يناقشونه تحت مبدأ ما ذكرناه آنفا من المشاكسة والمخالفة والمناكفة ولهذا فإن مؤتمراته الصحافية هي مزيج من الاتهامات والمزاح والتباهي.
يقول أحد التقارير في وصف تصرفّات الرئيس إنه قد جعل نفسه هو الممثل البطل والمنتج والمخرج لآخر برنامج من تلفزيون الواقع حيث بدا أمام الرأي العام رئيسا قويا سريع الغضب، لكن غضبه ينصبّ على الصحافيين أكثر من غيرهم.
هجمات ترامب على وسائل الإعلام ليست بالشيء الجديد. لكن أزمة كورونا كانت سببا لمماحكات أخرى.
يقول الرئيس لأحد الصحافيين “أنت صحافي من الدرجة الثالثة وما قلته عار”. ووصف ترامب مراسلين آخرين بأوصاف منها البغيض واللعين..
في بريطانيا يتصاعد الجدل ويدخل الصحافيون في عمقه، يا ترى هل كانت إجراءات الحكومة كافية للتصدي للوباء بينما تقارير الخبراء تحذّر من تحوّل بريطانيا إلى واقع أسوأ من واقع البلدان الأوروبية الأكثر تعرّضا للوباء بوفيات زادت على 10 آلاف وفاة حتى ساعة كتابة هذه السطور.
هنالك من الصحافيين من ضاق ذرعا بالإجراءات الحكومية القاصرة تحت دعوى أن الوقت ليس وقت انتقادات وبمعنى آخر يجب الصمت على كل شيء ومنه السكوت على وفاة أطباء وممرضين بسبب نقص في مستلزمات الحماية الشخصية، وأن نقص تلك المستلزمات ونقص أجهزة التنفس الاصطناعي يعود إلى ارتكاب حكومة المحافظين منذ عهد تيريزا ماي أخطاء كارثية بخفض ميزانية القطاع الصحي تخفيضا فادحا كان من نتائجه ما نعيشه اليوم.
إزاء ذلك، إن تكلم الصحافي فإنه يكون قد خرق قواعد السكوت والتلاحم وقت الأزمات، وإن تكلّم فهو مشاكس عنيد و لا يعي خطورة ما يقول.
أزمة كورونا إن كانت قلبت الحياة وبعثرت الكثير من الاعتبارات فإنها كانت تجربة أخرى جديدة للصحافيين باتجاه إما إسكاتهم وإما التشويش على مهنيتهم.