إلى متى سيقمع الوباء أصوات المحتجين

قبل أن يحزم عام 2019 أمتعة الرحيل لترك المجال وسلطة الزمن لعام 2020، أجمعت كل ترجيحات الخبراء على أن العام الحالي سيكون احتجاجيا بامتياز لما تركه العام الذي سبقه من بوادر غضب شعبي طال جميع البلدان، لكن ما لم يكن يتوقعه حتى الكثير من الساسة الخائفين من الثورة على حكمهم أن عاملا آخر لم يكن مبرمجا سيدخل على الخط ليقلب المعطيات بصفة تامة. إنه وباء كورونا الذي فرض سلطته على الجميع وأجل كل شيء حتى تلك الاحتجاجات الاجتماعية التي تعتبرها بعض الشعوب ضرورة قصوى، فكيف سيكون الأمر في مرحلة تفشي الوباء وبعد القضاء عليه؟
تونس - فرض فايروس كورونا المستجد معطيات جديدة في الساحة الدولية لا فقط في ما يتعلق بالكارثة الصحية الوخيمة التي أحدثها، بل غيرّ حتى ولو بصفة مؤقتة شكل العلاقة بين الحكومات والشعوب من العداوة إلى التكامل المرحلي والمؤقت.
وأدى تفشي الوباء إلى خنق أصوات المحتجين وخفتها في الكثير من الدول، ما أفرز حالة اجتماعية أخرى ظهرت فيها الشعوب، حتى التي تصنف بأنها الأكثر احتجاجا، متعاونة بشكل كبير مع حكومات بلدانها التي اتخذت إجراءات متشددة كالحظر الصحي وحظر الجولان التام، ما حدّ من التنقل بحرية ومنع التجمعات الشعبية بكل أشكالها.
وشهد العالم في نهاية العام الماضي 2019 زيادة غير مسبوقة في الاحتجاجات السياسية، ولكن، وفي تحول قدري، أدى فايروس كورونا الذي يجتاح العالم حاليا إلى إنهاء احتجاجات الشوارع فعليا، وبسهولة لم تستطع أن تجاريه فيها دول كبرى.
مع توفر كل المؤشرات الدالة على أن العالم ماض نحو مرحلة جديدة ستكون عصيبة بعدما ضُرب الاقتصاد العالمي المتسم راهنا بحالة ركود، علاوة على وجود دلائل أخرى تؤكّد ارتفاع نسب البطالة في قطاعات عدة بسبب الحجر الصحي، تُطرح راهنا الكثير من الأسئلة عن مدى صمود الحكومات في تلبية متطلبات شعوبها وكذلك عن مدى صمود الشعوب المهددة حتى في أمنها الغذائي، فهل يفرض الوباء حالة نهاية مؤقتة للاحتجاجات أم أن ارتداداته ستكون أكثر غضبا وعنفا؟
ما بعد الوباء
على عكس عام 2019 الذي كان عام الاحتجاجات غير المسبوقة بدءا باحتجاجات السترات الصفراء في فرنسا مرورا باحتجاجات السودان والجزائر التي أسقطت عمر حسن البشير وعبدالعزيز بوتفليقة وصولا إلى ما فرضته لغة الشارع المحتج من تحولات في لبنان والعراق، دخل عام 2020 بحلّة مغايرة يقول خبراء إنها قد تحد من النفس الثوري الاحتجاجي، لكن قد تفرز في ما بعد مدا احتجاجيا أكثر مطلبية وأكثر عنفا.
ويرى صمويل برانين، وهو واحد من كبار الباحثين بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنه رغم أن التباعد الاجتماعي الذي فرضته الدول وظروف مواجهة ما أصبح يعرف بـ”جائحة كورونا”، قد أطفأ المشاعر الملتهبة لدى عشرات الملايين الذين اعتادوا الخروج إلى الشوارع للاحتجاج، فإن الجمر الذي أشعل الاحتجاجات ما زال متوهجا.
ويؤكد برانين في تقرير نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه بمجرد أن تنتهي أزمة كورونا، ستحدث زيادة في الاحتجاجات الجماعية، وربما تكون ذات تداعيات سياسية أوسع نطاقا، ومن المحتمل أن يكون لها دور حاسم في تحديد السياسات المحلية والعالمية لفترة ما بعد كوفيد–19.
وأدت أزمة كورونا وما ترتب عليها من تداعيات اقتصادية متزايدة إلى زيادة الشعور بالكثير من الأسباب الرئيسية التي كانت الدافع وراء الاحتجاجات الجماعية على مدار العام الماضي. ومن تلك الأسباب، الإحساس بالظلم، وفساد النخبة، وعدم توفر الفرص الاقتصادية.
ومع بدء تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي والحجر الصحي، ثارت شكوى في بعض المجتمعات من عدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية، وتزايد المخاوف من الصدمات الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى الجوع والتشرد. وقد بدأ التذمر يتصاعد في بعض أنحاء أفريقيا بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وعدم توفرها بالقدر الكافي نتيجة أزمة كورونا. ومن المرجح أن يتزايد السخط الشعبي في ظل تعثر الحكومات في أنحاء أخرى من العالم في التعامل مع الأزمة على المستويين الصحي والاقتصادي.
ويعكف الخبراء والمراقبون على دراسة التغيرات المستقبلية في فترة ما بعد كورونا بالاعتماد على مقاربات علمية تعتمد أساسا على تداعيات الوباء، خاصة في ما يخص الحياة اليومية للكثير من المجتمعات التي كانت على أهبة الاستعداد للتمرّد على حكوماتها.
ورغم وجود شبه إجماع على أن ثمن كورونا سيكون باهظ الثمن على كل الحكومات سواء كانت قوية أو فقيرة، فإن الهاجس الأكبر بات يحيط بحكومات الدول النامية التي تتوجّس في غضون الأشهر القادمة، إن تواصل تفشي الوباء، حتى من إمكانية توفير الضرورات الحياتية، كصرف المرتبات أو توفير الاحتياجات الأساسية.
وتنضاف إلى صعوبات حكومات الدول الفقيرة عوامل أخرى قد تجعلها في مرمى نيران الاحتجاجات، حيث لم تقدر قبل تفشي الوباء سياساتها على التقليل من البطالة ومن نسب الفقر، لتجد نفسها الآن تعاني أزمة اقتصادية ستمهد ربما، وفق الكثير من الدراسات، للإطاحة بها في فترة ما بعد الوباء.
وتعتمد الاقتصادات الهشة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض دول منطقة الشرق الأوسط على قطاعات هامة كالتجارة أو قطاعات أخرى موسمية وعلى رأسها السياحة، لكن بعد اتخاذ إجراءات غلق الحدود البرية والجوية لن يعود لهذه الدول بدائل لتعبئة مواردها المالية.
مستقبل غامض
يشير الباحث الأميركي صمويل برانين إلى عامل آخر ملحوظ اعتمدت عليه الاحتجاجات خلال السنوات العديدة الماضية، وهو المناخ والحركة البيئية العالمية التي شهدت انتشارا سريعا خلال العامين الماضيين، وكانت هناك خطط مهمة لدى الجماعات الرئيسية في الحركة، وبينها حركة “أيام الجمعة من أجل المستقبل” التي تتزعمها الناشطة البيئية السويدية جريتا تونبرج، تهدف إلى زيادة الاحتجاجات هذا العام قبل مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بتغير المناخ، والذى تم تأجيله. وبدلا من ذلك، بدأت الجماعات البيئية تتجمع من جديد، ولكن على أساس افتراضي.
ويرى برانين أنه في خضم تفشي فايروس كورونا تتخذ حكومات الكثير من الدول بقوة خطوات يمكن أن تقلص من خصوصية البيانات الخاصة بالمواطنين، ومن حرياتهم المدنية، بما في ذلك الوصول إلى بيانات الهواتف بحجة المساعدة في احتواء الفايروس. وقامت الصين وروسيا بالفعل بنشر واستخدام تكنولوجيات على نطاق واسع للغاية تزعم الدولتان أنها تهدف إلى خدمة الصحة العامة. وما يزيد في حيرة الحكومات والشعوب على حد السواء هو عدم وضوح الرؤية مستقبلا في ظل عدم وجود أي مؤشرات تؤكّد لحظة القضاء على الوباء، خاصة أنه لم يتم إلى الآن التوصل إلى علاج مضاد لفايروس كوفيد–19.
وتحدثت العديد من المنظمات، كمنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، في أكثر من تقرير منذ ظهور الوباء في مدينة ووهان الصينية عن وجود مؤشرات جدية تؤكّد أن تداعيات كورونا ستشمل جميع الدول بلا تفريق بين غنية أو فقيرة، لكنها شدّدت في المقابل على أن الدول النامية ستكون الأكثر عرضة للمرور بصعوبات كبرى ستشل اقتصاداتها في ظل تراجع مردود القطاع التجاري مقابل ارتفاع أعداد الذين أجبروا على بطالة قسرية للتوقي من كوفيد – 19.
ويوضح برانين أن مسار كوفيد – 19 غير واضح المعالم، ولكن من المؤكد أن الجائحة سوف تلقي بعبء لم يسبق له مثيل على المجتمعات والحكومات، وهو ما من شأنه أن يفاقم التوترات الحالية ويخلق أخرى جديدة، مما يؤكد استمرار الاحتجاجات في أنحاء العالم في المستقبل القريب. ويقول “إن كوفيد – 19 يعيد كتابة تاريخنا ويمثل تحديا للعلاقة بين المواطنين وحكوماتهم، وإنه من المهم أن يدعم صانعو السياسة في الولايات المتحدة، بقوة، حركات الاحتجاج التي تسعى إلى تحريك العالم في اتجاه أكثر ديمقراطية وانفتاحا وشفافية”.
ويرى برانين أن هناك مسؤولية خاصة تقع على عاتق شركات التكنولوجيا العالمية، خاصة لضمان عدم إساءة الحكومات والجماعات المتطرفة سياسيا استخدام منتجاتها، والالتزام بالقيم التي تعزز بدورها الأسواق الحرة، والعودة إلى النمو الاقتصادي.