القطن المصري يفقد مكانته سيّدا في السوق العالمية

السياسات الحكومية والتغيرات المناخية تحوّل زراعة القطن إلى عبء محلي اقتصادي.
الأربعاء 2020/03/11
القطن المصري الشهير يحتضر

لعقود طويلة، ظلّ القطن المصري سيّد الأسواق العالمية، وفخر المصريين الذين اعتبروه رمزا ثقافيا و“هرما رابعا“، لكن اليوم تمر هذه الصناعة بعدة تحديات تهددها وتجعلها تسجل تراجعا في السوق العالمية وغير قادرة على المنافسة.

القاهرة - في العام 1994، تخلى المصري الأميركي الذي ترعرع في كاليفورنيا، أيمن نصار عن دراسته في جامعة كولورادو، وعاد إلى مصر ليستثمر في زراعة القطن المصري، الذهب الأبيض الذي ظل لعقود طويلة فخر صناعة الأقمشة في جميع أنحاء العالم، وماركة مسجلة مصرية شأنها شأن زيت الزيتون الإيطالي والنبيذ الفرنسي.

تتحدث ياسمين السيد، في تحقيق مطول نشرته مجلة ذو نيويورك، عن تجربة نصار وترسم صورة يملأها حنين إلى عهد كانت فيه علامة “القطن المصري” تدل على النسيج الناعم والفاخر المصنوع من مادة اعترف العالم بجودتها، لكن هذه المادة تواجه تحديات عدة اليوم تبدأ بالسياسات الحكومية ولا تنتهي عند التأثر بالمتغيرات المناخية، مرورا بتقلص مساحة الأراضي الزراعية وأزمة المياه، ما يجعل السيد تعنون تحقيقها بـ”نهاية القطن المصري”.

يبدو عنوان التحقيق سوداويا ومتشائما، لكنه يلامس الحقيقة، وفق خبراء وأهل الصنعة ممن تحدثت معهم “العرب” حول ما يعانيه هذا القطاع من تحديات وهل حقّا يمكن القول إن القطن المصري الذي يشتهر بجودته، يحتضر اليوم؟

عقبات متراكمة

حسين عبدالرحمن: استعادة جودة القطن طويل التيلة أمر صعب
حسين عبدالرحمن: استعادة جودة القطن طويل التيلة أمر صعب

بين أعوام 2006 و2016، انخفض إنتاج القطن المصري بنسبة سبعين في المئة، وألقت تقارير بحثية باللوم على سياسات الحكومة المتعثرة والمتغيرة وعلى تدهور جودة البذور. ويبدو قطاع القطن المصري اليوم عاجزا عن الحفاظ على شهرته في السوق المحلية والعالمية أمام منافسه الأشهر قطن البيما الأميركي. ويحتاج تجاوز هذا الوضع إلى جهود كبيرة ليتمكن القطاع من تجاوز العقبات المتراكمة.

وعندما قررت الحكومة تحرير قطاع القطن، أوقفت دعم مزارعي القطن المباشر، وأفسحت المجال للشركات الخاصة التي أصبحت تتاجر في بذور القطن بحرّية.

ومع تحول زراعة القطن إلى عبء، طالب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بإعادة قطاع القطن إلى سابق عهده. وكلف الحكومة بوضع تصور متكامل لمنظومة القطن بجميع محاورها الزراعية والتجارية والصناعية، استنادا لعدد من الثوابت الأساسية التي ترتكز على تعظيم الاستفادة من الإمكانات المتاحة، وتعهدت الحكومة بعدم خصخصة مصانع النسيج للاستفادة من القطن المحلي.

لكن، تصطدم الرغبة الجديدة بجملة من التحديات التي تقلّص من إمكانية عودة زراعة القطن إلى سابق عهدها، لأسباب تتعلق بفلسفة الحكومة في تعاملها مع المزارعين الذين تركتهم دون أن توفر لهم الضمانات التي تشجعهم على زراعة القطن والحد من الخسائر التي يتعرضون لها.

تحاول الحكومة المصرية اليوم أن تعيد بوصلة الاهتمام بزراعة القطن، لكن دون آليات واضحة ومخططات محددة. وأصبح المزارعون أنفسهم يعانون مشكلات مالية ضخمة بعد أن تعرضوا لخسائر فادحة جعلتهم يتجهون إلى زراعة الفواكه والخضروات التي تكون أقل تكلفة وخسارة من زراعة القطن.

ويعدد إبراهيم عمارة، أحد مزارعي محافظة الشرقية (شرق الدلتا)، أسباب العزوف عن زراعة المحصول في محافظته التي كانت الأكثر إنتاجا له قبل سنوات، منها قلة الأيدي العاملة اللازمة لجني المحصول، مع عدم دعم الحكومة للتحول إلى الجني الآلي، وتقلص مساحات الأراضي الصالحة للزراعة، وغياب الدعم الحكومي الذي يؤثر خاصة على صغار المزارعين، هذا بالإضافة إلى انخفاض السعر العالمي للقطن.

وأضاف، في تصريح لـ”العرب”، أن المزارعين يتحمّلون مصاريف نقل المحصول إلى المجمّعات التي يخزن بها وتكون مرتفعة، مع عدم وجود سياسة تسويقية تتبناها الحكومة، وبالتالي لا يحصل الفلاح على نصف المقابل الذي تتكلفه زراعة القطن، لافتا إلى أن زراعة القطن تراجعت لصالح زراعة القمح والأرز والذرة.

الذهب الأبيض
الذهب الأبيض

ولفت عمارة النظر إلى أزمة أخرى تتعلق بغياب إشراف مديريات الإرشاد الزراعي على المحاصيل في ظل أزمات متردية تعاني منها القطاعات المحلية التابعة للحكومة، وانعكس ذلك على استخدام بذور غير مطابقة لمواصفات أصناف القطن التي تتمتع بها مصر في محاولة للبحث عن أي منفذ للأرباح، لأن بذور القطن المتوافرة طويل التيلة تعطي إنتاجا منخفضا يزيد من خسائر المزارعين.

وتنتج مصر حوالي عشرة أنواع من القطن المزروع، من بين هذه الأصناف “الجيزة 86” الذي يعتبره التجار قمّة القطن المصري، لكن أصبح طول ألياف القطن أقصر مع مرور الوقت، ومنذ بداية العقد الماضي لم يعد هناك محصول من قطن طويل التيلة بالجودة التي يعرف بها، ولم تعد مصر منافسا قويا لدول تزرع نفس القطن مثل الولايات المتحدة والهند وبيرو والسودان. وفشلت الدولة في التوصل إلى مزيج هجين جديد واستثنائي. واستمر المزارعون في زرع بعض الأنواع القديمة، وانخفضت الجودة والحجم.

وبعد تجميع القطن، يقسّمه المصنّعون لتصنيفه وفقا لطول الألياف واللون ومعايير الجودة الأخرى من أجل عرضه على المشترين. وسجلت جودة حصاد القطن المصري انخفاضا لدرجة دفعت أصحاب الشركات الأجنبية التي تحصل على القطن لوقف زياراتها الدورية لمراكز التصنيف بمصر، وبالنسبة للعديد من شركات تصنيع الملابس لم يعد المنتج من القطن المصري.

حاولت مراكز بحوث زراعة القطن في مصر إنقاذ البذور التي لم تتضرّر بإعادة زراعتها مرارا، مع تحديد الخصائص المطلوبة، كي تنجح في إحيائها بالكامل. وأشرفت الحكومة المصرية على زراعة البذور المختارة في قريتين، وعندما أثبتت تلك البذور نجاحها، نشروها في جميع أنحاء البلاد، ومثّل ذلك بداية لعودة «الجيزة 89»، واتفق المزارعون في العام 2017 على أن ذلك المحصول يشبه المحاصيل القديمة.

وقبل بدء موسم الزراعة في ربيع 2018، حددت الحكومة سعرا استرشاديا للقطن، والأسعار الإرشادية شكل من أشكال الدعم غير الكامل، أي تحث الحكومة الشركات على شراء القطن بسعر محدد مسبقا وغير ملزم، وشجعت الأسعار المزارعين ومع تحسّن جودة البذور، زاد الإنتاج بنسبة 63 في المئة.

تحسن ولكن...

وليد السعدني: ارتفاع درجات الحرارة أثر على إنتاج القطن
وليد السعدني: ارتفاع درجات الحرارة أثر على إنتاج القطن

قبل الحصاد، تحسّن طول القطن الجديد ولونه وقوته، وجاءت التقارير واعدة وبلغة متفائلة، وتوقّعت أن يزيد التطور من الطلب في السوق ويضاعف أسعار القطن المصري في الأسواق المحلية والدولية.

لكن بعد حصاد القطن، تجاهل التجار الأسعار الاسترشادية، فتراجعت أرباح المزارعين، ما جعل العديد منهم يترددون في الإقدام على زراعة القطن العام الماضي، وتقلصت مساحة الأراضي المخصصة لزراعته إلى النصف تقريبا.

وأكد وليد السعدني، رئيس جمعية منتجي القطن في مصر، أن مساحة محصول القطن في العام 2019 بلغت نحو 237 ألف فدان بما يقارب 1.5 مليون قنطار قطن، وهذه النسبة معرّضة للانخفاض العام الحالي لتتراوح ما بين 150 و200 ألف فدان، وهناك نصف مليون قنطار مازال موجودا من العام الماضي ولم ينجح المزارعون في تسويقه بالداخل أو الخارج.

وأوضح، في تصريح لـ”العرب”، أن غياب الحماية الحكومية للمزارعين وخفوت صوتهم وعدم الاستماع لمطالبهم تؤدي إلى عدم وجود مستقبل لزراعة القطن في مصر من الأساس. ويلتقي ذلك مع المتغيرات المناخية التي أدت لارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة خلال الفترة من شهر إبريل وحتى أكتوبر، وهو نفس توقيت زراعة القطن.

وبرأي السعدني، يعد تطوير صناعة الغزل والنسيج في الداخل مقدمة نحو تشجيع المزارعين في ظل انعدام القدرة على المنافسة الدولية مع وجود أنواع أكثر جودة، في وقت يحتاج فيه القطن المصري إلى سنوات عدة وخطوات تجريبية مختلفة لاستعادة جودته التي فقدها، ما يتطلب في المقابل فرض رسوم إضافية على القطن المستورد لتشجيع المنتج المحلي.

ويبلغ حجم استهلاك المغازل المحلية من الأقطان المستوردة حوالي 3 ملايين قنطار قطن، مقابل 300 ألف قنطار حجم استهلاك المغازل المحلية من الأقطان المصرية، وهو أمر يصعّب من مهمة الحكومة التي أعلنت قبل عام تقريبا عن خطتها لتطوير الشركات الحكومية العاملة في قطاع الغزل والنسيج.

ويتفق العديد من العاملين في مجال الغزل والنسيج على أن إحياء زراعة القطن يتطلب وضع خطط طويلة المدى لتحسين أوضاع المزارعين وإعادة تشغيل المصانع الحكومية العاملة في هذا المجال التي يبلغ عددها 21 شركة أغلبها جرت تصفيتها نتيجة الخسائر التي مُنيت بها على مدار الأعوام الماضية في ظل انحسار زراعة القطن التي كانت تشغل مساحة بلغت في ستينات القرن الماضي حوالي ثلاثة ملايين فدان.

قال حسين عبدالرحمن، نقيب الفلاحين المصريين، إن الحكومة عليها الشروع في اتخاذ إجراءات تشريعية لحماية القطن وتطبيق عقوبات رادعة على المزارعين الذين يقومون بعمليات خلط للبذور، وأخرى تحمي المحصول من التلوث، وعليها في المقابل دور مواز عبر شراء المحصول بأسعار تحقق هامش ربح للفلاح بحسب نص الدستور.

وتنص المادة 29 من الدستور المصري على أن “الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني، وتلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها وشراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح”.

وأشار عبدالرحمن، لـ”العرب”، إلى أن استعادة جودة القطن طويل التيلة أمر صعب للغاية، لأن غالبية المصانع المحلية تعمل على شراء واستيراد القطن قصير التيلة الذي يتوافق مع نوعية الآلات العاملة حاليا، ما يفرز الحاجة إلى جهود حكومية أكبر على تشجيع الصناعة عبر القطن المصري، ما يتطلب تكثيف الأبحاث المحلية والدولية لتحسين خواص القطن المصري، وإعادة الجودة المثالية له طبقا للمعايير القياسية.

لقرون، كانت ضفاف النيل موطنا للمزارع المنتجة للأرز وكذلك القطن والقمح، لكن تسبب نقص المياه وتدهور التربة والتلوث في أزمة قوضت الزراعة في الدلتا.

التحديات كبيرة أمام استرداد القطن المصري لمكانته العالمية، وهو أمر يتطلب إعادة نظر في كثير من السياسات والبحث عن صيغة تكاملية بين المزارع والحكومة والمصانع التي تتولى مهمة التصدير
التحديات كبيرة أمام استرداد القطن المصري لمكانته العالمية، وهو أمر يتطلب إعادة نظر في كثير من السياسات والبحث عن صيغة تكاملية بين المزارع والحكومة والمصانع التي تتولى مهمة التصدير

وتلفت ياسمين السيد إلى أن زراعة القطن تتطلب استخداما كثيفا للمياه، كما يعدّ مستقبل نموه في بلد جاف مثل مصر غير مؤكّد. وقد حذرت الأمم المتحدة من نقص المياه في مصر بحلول سنة 2025 بسبب تغير المناخ وتزايد عدد السكان.

وفقا لتقارير الأمم المتحدة فإن 18 في المئة من المواد الفعّالة والكيميائية على مستوى العالم توجه لحماية النبات في محصول القطن

ويعني ذلك حاجة المحصول إلى كميات كبيرة من الأسمدة ومبيدات مقاومة الآفات التي ارتفعت أسعارها بشكل ملحوظ في مصر خلال السنوات الماضية، ما يقلص من عوائد المزارعين بشكل كبير، لأن طرق الري التقليدية المستخدمة في مصر تكون بحاجة إلى كميات كبيرة من الأسمدة.

وشجعت الحكومة المصرية على زراعة القطن ارتكانا على فائض المياه الوفير الذي كان لديها منذ بناء خزان السد العالي في جنوب مصر قبل عقود طويلة.

لكن الوضع يختلف اليوم، وسيكون توفير المياه تحديا في السنوات المقبلة، إذ طفت مشكلات تتعلق بزيادة شُحّ المياه، حيث يتطلب ري عدد من أشجار القطن تكفي لصناعة قميص واحد نحو ألفي لتر من المياه العذبة، وتعد تلك مشكلة ستتفاقم في المستقبل في ظل تعقد حل أزمة سد النهضة الإثيوبي، والذي يُؤثر اكتمال بنائه دون توافق على حصة مصر من مياه النيل.

لذلك، تبدو التحديات متعاظمة ليسترد القطن المصري مكانته العالمية، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في كثير من السياسات، والبحث عن صيغة تكاملية بين المزارع والحكومة والمصانع التي تتولى مهمة التصدير، وهي عملية معقدة من الضروري أن تتواكب معها رؤى متطورة لتتخطى العقبات المتراكمة.

12