فايروس كورونا يحفظ ماء وجه الجزائر والجامعة العربية

تأجيل القمة يوحي بالاستفادة من حلحلة الأزمتين السورية والليبية.
الأحد 2020/03/08
توافق جزائري عربي

يؤكد تأجيل الدورة الـ32 للقمة العربية إلى يونيو القادم بسبب تأثيرات فايروس كورونا أن الجامعة والجزائر نجحتا في إرجاء المناسبة العربية حتى يتم تفكيك تعقيدات الأزمتين السورية والليبية بما يجعل هذه القمة استثنائية خاصة مع استمرار حملة النظام لاسترجاع محافظة إدلب والجيش الليبي لاسترجاع طرابلس من قبضة الميليشيات.

تمثل مؤسسة القمة العربية حالة رمزية مهمة للكثير من القيادات والشعوب تجعلهم يحافظون على ديمومتها ويرفضون المساس بها، حتى لو كانت أكوام القرارات التي صدرت عنها لم يُنفذ منها سوى النزر اليسير، وغالبيتها أصبح في الأدراج ومن التاريخ.

بدأت هذه الميزة تتعرض في السنوات الأخيرة لتجاذبات مختلفة ما وضعها على محكات متباينة، لأن الاجتماعات التي يغيب عنها عدد كبير من الزعماء تحولت إلى منتدى لتراشقات ومزايدات ومواءمات وصفقات وأجندات متعارضة، وبات الحد الأدنى من التفاهمات على وشك التلاشي.

وذهب أحمد أبوالغيط الأمين العام للجامعة العربية إلى الجزائر الأسبوع الماضي، لتحديد موعد الانعقاد قبل نهاية مارس الجاري، باعتبارها البلد المضيف للدورة الـ32، بناء على الدعوة الرسمية التي تلقاها في بداية شهر فبراير الماضي للتشاور حول الترتيبات، ثم فوجئنا به يعلن تأجيل القمة لنهاية يونيو المقبل، والسبب المعلن انتشار فايروس كورونا، ذلك الوباء اللعين الذي أوقف الكثير من التفاعلات العالمية، وأصاب الحركة بين كثير من الدول بما يشبه الشلل.

وجدت الجزائر والجامعة العربية سببا منطقيا في كورونا لحفظ ماء وجه كليهما، وتجنب الحرج المتوقع عند انعقاد القمة في سماء ملبدة بالغيوم، ولا أحد يستطيع توقع ما ستسفر عنه من أمطار سياسية الأيام المقبلة، في ظل بيئة حافلة بالصراعات، وهي ليست جديدة، فكلها مستمرة منذ سنوات، وكانت القمة العربية تعقد بمن حضر في الزمان والمكان ولمدة لم تزد عن يوم وربما بضع ساعات، حيث كانت القيمة المعنوية للانعقاد هدفا في حد ذاتها، بصرف النظر عن الأهمية التي تنطوي عليها القرارات الصادرة عن هذه القمة أو تلك.

هناك ثلاثة متغيرات رئيسية أضفت خصوصية على قمة الجزائر، وحوّلتها من قمة عربية عادية إلى استثنائية، وجعلت كثيرين يعولون عليها في أن تكون نقطة فاصلة بين ما قبلها وما بعدها في التعامل مع بعض الملفات العربية الساخنة، لذلك توقعت دوائر عدة أن تشهد تراشقات بين دول الـ”مع” ودول الـ”ضد” في القضايا المطروحة، وتزداد حدتها أمام مؤسسة القمة العربية التي أضحت عاجزة عن التقدم الإيجابي، فلجأت إلى تسكين الأزمات وليس حلها.

طموح محفوف بالأزمات

الجزائر تتطلع للاستفادة من ملامح تعافيها لتتفاعل مع المحيط الإقليمي وفي القلب منه الدائرة العربية المليئة بالنزاعات

أول المتغيرات، الجزائر البلد المضيف، حيث بدأت تتجاوز الكثير من مشاكلها الداخلية، وتتطلع إلى الاستفادة من ملامح التعافي للقيام بدور يدشن لمرحلة سياسية يريد لها الرئيس عبدالمجيد تبون أن تكون بداية لتفاعل مع المحيط الإقليمي، وفي القلب منه الدائرة العربية المليئة بالنزاعات والخلافات، وكي يُحدث علامة فارقة في مسيرة القمة المتصدعة عليه أن يقترب من بعض الملفات الشائكة التي ترى الجزائر ضرورة في مواجهتها وعدم الاستسلام لسياسة تجاهلها وترحيلها.

إذا أرادت الجزائر وضع يديها على الجروح فهي كثيرة ومتشعبة، وتصطدم حساباتها بتقديرات بعض الدول العربية، فتتحول القمة من لمّ الشمل أو تمريرها في هدوء إلى قمة يمكن أن تُجهز على ما تبقى من العمل المشترك المتمثل في رمزية الاجتماعات، وبدلا من أن تكون قمة الجزائر مدخلا للتقويم والإصلاح والتطوير تفتح الأبواب للتلاسن الذي حاولت القمم السابقة الحدّ منه عبر القفز على قضايا تمثل حساسية مطلقة للبعض.

ثاني المتغيرات، احتدام النقاش حول عودة سوريا لمقعدها المجمد في الجامعة العربية، حيث قطع النظام شوطا مهما في بسط سيطرته على أجزاء كبيرة من الأراضي السورية، ونجح في تطوير علاقاته مع عدد من الدول العربية، غير أن البعض لا يزال يمانع عودة دمشق لممارسة دورها ضمن المؤسسات العربية الرسمية، مقابل زيادة المطالبين باحتلال مقعدها، وتعد الجزائر في مقدمة الدول التي تتبنى هذا الموقف.

أعرب أبوالغيط عن هذه الإشكالية بقوله “هناك دول عربية تؤيد عودة سوريا إلى الجامعة، لكن حتى الآن ليس لديّ شخصياً كأمين عام ما يؤشر إلى وجود نيات محددة وواضحة في صياغات مكتوبة ترغب في هذه العودة”، لافتاً إلى أن هناك أوضاعاً تتطلب بذل كثير من الجهد للمّ الشمل العربي قصد التوصل إما إلى وقف لإطلاق النار أو إلى تسويات سياسية. وهذه رسالة للجزائر تحديدا، لأن عودة سوريا بحاجة إلى تحركات تفوق القدرات العربية.

أتذكر أن مسؤولا رفيعا بالجامعة العربية أكّد لي في تصريحات نشرتها “العرب” قبل نحو عام، أن عودة سوريا مرهونة بإرادة قوى كبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة.

وتؤكد هذه المعطيات أن قمة الجزائر لن تحرّك ساكنا في ملف سوريا، وإذا صمّمت على موقفها ستفشل في مسعاها، ويُحسب عليها ذلك سياسيا لجهة أنها لن تفلح في تحريك المياه الراكدة في سوريا أو غيرها، وتشبه دورتها الدورات الباردة التي عقدت في السنوات الأخيرة، وتتجنب المناقشة الشفافة وتلجأ إلى الترحيل القسري، ما يضعف دور الجزائر في ملف تعتزم قيادتها أن تكون رأس الحرس فيه.

منطق كورونا السياسي

Thumbnail

تكمن أهمية تأجيل القمة من منطق كورونا وليس من منطق الشعور بالفشل، لتمهل الجزائر وقتا تعتقد أن التطورات المقبلة سوف تكون فيه لصالح سوريا، ففي ظل التحركات الجارية على الأرض تتقدم قوات النظام السوري، وتحرق الكثير من المراحل العسكرية، ما يساعد دمشق أيضا على حرق بعض المراحل السياسية، وتطبيع العلاقات مع دول إقليمية ودولية مختلفة، والتسليم بالأمر الواقع، والاقتناع بجملة المواقف الروسية الداعمة لدمشق حاليا التي تميل الكفة لصالحها.

وترفع هذه المعطيات العتب عن دول الممانعة لعودتها عندما يحين موعد الانعقاد قبل نهاية يونيو المقبل، وتصبح مسألة سوريا تحصيل حاصل أمام القمة العربية، لأن واشنطن أيضا منتظر أن تواصل تغيير رؤيتها لما يجري في سوريا.

ثالث المتغيرات، الأزمة الليبية، والتي لا تقل خطورة عن نظيرتها السورية، وربما تفوق أهمية في نظر الجزائر الطامحة للقيام بدور مؤثر فيها، وظهور نوايا تدل على تبدل نسبي في موقفها الداعم لحكومة الوفاق الوطني والرافض للدور الذي يقوم به المشير خليفة حفتر على رأس الجيش الوطني الليبي، وأصبحت الآن تميل لقدر من التوازن بينهما، وربما الاقتناع أكثر بالدور المحوري والإيجابي الذي تلعبه المؤسسة العسكرية تحت قيادة المشير خليفة حفتر.

وتبدو معالم هذه الأزمة الآن مفتوحة على كل الاحتمالات، وأهمها تزايد فرص سيطرة الجيش الوطني الليبي على طرابلس، بالتالي فدعوة رئيس حكومة الوفاق فايز السراج كالعادة لحضور قمة الجزائر قد يحسب عليها لأنها تريد الاحتفاظ بمسافة معه، ومرجح أن تتزايد مع كل انتصار يحققه الجيش ويقرّبه من إحكام السيطرة على العاصمة.

ومع الموعد الجديد للقمة العربية، يمكن أن يحدث هذا التطور، وتتحلل الجزائر من أيّ التزامات معنوية مع فريق السراج الذي بدأت تسحب الكثير من الأراضي السياسية من تحت أقدامه، فلم تتوقع بعض الدوائر أن يذهب وزير خارجية الجزائر إلى بنغازي قبل حوالي شهرين، ولم يتوقع هؤلاء أن يقوم عبدالهادي الحويج وزير الخارجية المعين في حكومة شرق ليبيا بزيارة للمغرب أخيرا.

وكلّها من المؤشرات التي تدعم حدوث تطورات في المدى المنظور تستفيد منها الجزائر لتصبح رقما قبل حلول موعد قمة الجزائر في يونيو المقبل.

وجربت الجزائر دعم آلية دول الجوار ولم تحقق نجاحا ملموسا، وتدعم الآلية الأفريقية وتترنح بين تقديرات قوى متعددة، وترى في الأزمة التي تعيشها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا بعد استقالة رئيسها غسان سلامة الأسبوع الماضي فرصة في مدّ بصرها للتحكم في مفاتيح الأزمة، وتتمنى توظيف الآلية العربية خلال رئاستها للقمة الـ32، لذلك من مصلحتها التأجيل كي تكون اتضحت بعض المعالم، وتمّ تفكيك عدد من الخيوط المتشابكة في الأزمة.

تنطوي الرؤى النظرية على جانب مما تريده القيادة الجزائرية عمليا ولو بالاعتماد على كورونا، بينما الواقع سوف يكون له شأن آخر، فمؤسسة القمة العربية نفسها، سواء أكانت على رأسها الجزائر أم غيرها لم تعد ذات فعالية، وفقدت الكثير من بريقها، ولن تستطيع العودة لتكون ركنا أصيلا في العمل العربي، فالفجوة بين الدول عميقة ودقيقة وتحتاج إلى ما هو أكبر من رغبة وحسن نوايا الجزائر التي لم تعاني من رواسب كبوتها، ولديها تقديرات حتما تتصادم مع قوى عربية أخرى لن تسمح لها قطف ثمار الأزمتين السورية والليبية في قمة واحدة.

5