إسعافات أوروبية لإنقاذ اتفاق نووي في غيبوبة

كثفت الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي جهودها لإيجاد حل وسط بين إيران وواشنطن، وهو ما دفع بالمنسق الجديد للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل للذهاب إلى طهران لاستكشاف خططها المقبلة، لكن كل هذا التشبث الأوروبي بحماية الاتفاق النووي، اصطدم بسياسة أميركية ذاهبة إلى التخلي عن فكرة عقد مفاوضات جديدة مع طهران بحسابات تراهن على أن النظام الإيراني آيل إلى الفشل، وأنه لا طائل من منحه فرصة أخرى لعقد اتفاقات جديدة.
بروكسل - تراهن الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي مع إيران منذ عام 2015 على إذابة جليد الخلافات بين طهران وواشنطن، وذلك من خلال تكثيف تحركاتها التي ترجمتها مؤخرا جولة المنسق الجديد للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي توجه إلى إيران للوقوف على مواقفها ونظرتها إلى الاتفاق وخططها المستقبلية.
ومنذ شهر مايو 2018، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران وإعادة العمل بالعقوبات عليها. وهدد الرئيس الأميركي طهران بمشاكل كبيرة إذا واصلت أنشطتها النووية، لكنه أبدى آنذاك استعداده للمفاوضات على اتفاق جديد وهي فرضية تبدو صعبة في الوقت الحالي.
ويرى المراقبون أن سفر الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل إلى طهران لإنقاذ الاتفاق النووي، لم يحمل الكثير من الأمل في النجاح، إذ يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى الوسائل اللازمة لمطابقة مواقفه السياسية مع الدعم الاقتصادي الذي من شأنه أن يعيد الاستقرار إلى نظام يترنح تحت حملة الضغط الأقصى التي تفرضها واشنطن.
الأوروبيون يتشبثون بعدم مشاطرة الأميركيين الرأي بأن النظام سيسقط، كما أنهم لا يتوقعون استسلام طهران لشروط بومبيو
وجاءت زيارة بوريل بعد ثلاثة أسابيع على لجوء مجموعة الدول الثلاث؛ ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى آلية فض النزاع التي أقرها الاتفاق النووي الإيراني في 2015.
وتشير كل المعطيات المتعلقة بالاتفاق النووي، إلى أن مواقف الدول الأوروبية الموقعة عليه والداعية إلى وجوب فض هذا الإشكال قد اصطدمت مجدّدا بمأزق الموقف الأميركي غير المستعد للنقاش حول هذه المسألة مجددا في ظل كل التطورات التي تحاصر النظام الإيراني داخليا وخارجيا.
وتؤكد جل كواليس مشاورات الدول الأوروبية خاصة أن المفوضية الأوروبية قد تبني تصوراتها المستقبلية استنادا على ما ورد إليها من أنباء جديدة تفيد بعدم اهتمام واشنطن بعقد مفاوضات مع إيران تهدف إلى تطوير الاتفاق النووي مع إيران.
وفي ضوء هذه التطورات الجديدة، فقد تبين للأوروبيين أن واشنطن تعتقد جازمة أن النظام الإيراني آيل للسقوط والانهيار وأنه لم يعد ممكنا عقد أي اتفاقات جديدة مع طهران.
رفض أميركي
رغم أن الأوروبيين يدركون حالة التصدع الخطيرة التي أصابت نظام الجمهورية الإسلامية، إلا أنهم يتشبثون بعدم مشاطرة الأميركيين الرأي بأن النظام سيسقط، كما أنهم لا يتوقعون، على الأقل في القريب العاجل، استسلام طهران لشروط وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الشهيرة.
وكاستخلاص للمرتكزات التي بنيت عليها تصورات أوروبا، فإن الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي تعتقد أن إيران ما زالت قادرة على امتصاص الضغوط التي تمارسها واشنطن، وأنه لا تأكيد منطقيا حتى الآن بالإمكان التعويل عليه لاستشراف رد الفعل الإيراني من أجل الخروج من المأزق الذي تعرضت له طهران منذ إعلان ترامب انسحاب بلاده من اتفاق فيينا الموقع عام 2015 بين إيران ومجموعة الـ5+1 (الدول الخمس الدائمي العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا).
ولاحظ مراقبون أن الرئيس الأميركي لم يشر كثيرا في خطاب الاتحاد في 5 فبراير الجاري إلى تعويل كبير على إجراء مفاوضات وإبرام اتفاقات مع إيران، بل ركز فقط على “إنجازه” في قتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، ما أكد للأوروبيين التوجهات الجديدة للإدارة في واشنطن.
تشبث أوروبي
ووصف الرئيس الأميركي في خطابه سليماني بأنه “أكبر جزاري النظام الإيراني قسوة”، وأنه “وحش” قد “قتل وجرح الآلاف من أفراد القوات الأميركية في العراق”، واعتبره “أكبر إرهابي في العالم”.
واتهم ترامب، سليماني الذي قُتل في غارة أميركية بالعاصمة العراقية بغداد في يناير الماضي، بالتورط في “مقتل عدد لا يحصى من الرجال والنساء والأطفال”، وتوجيه الهجوم على القوات الأميركية بالعراق في ديسمبر الماضي، والذي أسفر عن مقتل أحد المتعاقدين مع القوات الأميركية بالإضافة إلى إصابة عدد من عناصر القوات الأميركية، مشيرا إلى أن سليماني “كان يخطط بنشاط لهجمات جديدة”، وتابع “لهذا السبب، في الشهر الماضي، وبتوجيه مني، نفذ جيش الولايات المتحدة ضربة دقيقة لا تشوبها شائبة أدت إلى مقتل سليماني وإنهاء حكمه الشرير من الإرهاب إلى الأبد”.
ووفق مصادر أوروبية، فإنه، ومنذ مقتل سليماني، لا تعطي الإدارة الأميركية علامات على الاستعداد للتفاوض، بالمقابل أعلنت طهران عن الحد من بعض التزاماتها داخل الاتفاق النووي ما أثار قلقا أوروبيا، هذه المرة، من خطر اقتراب إيران من امتلاك السلاح النووي.
وردّت الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق -بريطانيا وفرنسا وألمانيا- باستهجان الأمر وتفعيل آلية حل النزاعات، وفي نفس الوقت اتجه المنسق الجديد للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى طهران لاستكشاف خطط إيران المقبلة، على أن يناقش أمر ما استنتجه في إيران في اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.
وتكشف مصادر دبلوماسية أوروبية واكبت زيارة بوريل إلى إيران أن المسؤولين الإيرانيين عبروا عن أجواء ودّ وعن استعداد للحوار والتفاوض مع الأوروبيين محتفظين بالشرط الذي ذكره الرئيس الإيراني حسن روحاني عقب محادثاته مع الضيف الأوروبي عن تمسك طهران بمطالبة الشركاء في الاتفاق باحترام التزاماتهم، وأن موضوع العودة إلى المفاوضات ما زال مشروطا بالنسبة إلى طهران برفع العقوبات الأميركية عن إيران.
مراقبون : سفر الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل إلى طهران لإنقاذ الاتفاق النووي، لم يحمل الكثير من الأمل في النجاح
ومن المقرر أن تعقد إيران انتخابات تشريعية في وقت لاحق من هذا الشهر، حيث من المتوقع أن يهيمن المحافظون والمتشددون بنسبة أكبر على البرلمان. ويرى خبراء في شؤون إيران أن الموقف الحاد لواشنطن، خصوصا من خلال اغتيال سليماني ومسألة الانتخابات الإيرانية، يؤجل حاليا في إيران أي حديث عن قبول الذهاب إلى طاولة المفاوضات
ويرون أن رد الفعل الداخلي المستهجن لتصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف التي قال فيها إن احتمال التفاوض مع واشنطن وارد رغم قتلها لسليماني، يعبر تماما عن عدم وجود مرونة داخل النظام في هذا الوقت.
ويكشف دبلوماسيون أوروبيون أن ترامب أبدى اهتماما كبيرا بالجهود التي قادها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الصيف والخريف الماضيين إلى محاولة التوسط لتنظيم المفاوضات الأميركية الإيرانية التي أراد ترامب إطلاقها حتى لو كان الأمر يقتصر على صورة فوتوغرافية مع نظيره الإيراني.
وتقول المعلومات إن باريس نجحت في دفع الطرفين للقبول باتفاق إطار من 4 أجزاء ينظم المحادثات المستقبلية، غير أن ماكرون فشل في عقد اجتماع أو حتى تنظيم اتصال هاتفي بين الرئيسين الأميركي والإيراني على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في سبتمبر الماضي. وتضيف المعلومات أن الجهود الفرنسية في البناء على ما اتفق عليه في اتفاق الإطار فشلت بعد اندلاع الاحتجاجات بإيران في نوفمبر الماضي.
وتجد أوروبا نفسها أيضا في علاقة بالملف النووي أمام اختبار انسحاب واشنطن مؤخرا من المعاهدة الروسية الأميركية الموقعة في 1987 حول الأسلحة النووية المتوسطة المدى، من جديد في قلب سباق محتمل للتسلح. وتحظر هذه المعاهدة الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة في خطاب حول استراتيجية فرنسا للدفاع والردع النووي “لنكن واضحين إذا كان من الممكن (التوصل) إلى مفاوضات واتفاقية أوسع، فنحن نرغب في ذلك”. وأكد أن “الأوروبيين يجب أن يكونوا مشاركين وموقعين للمعاهدة الجديدة لأن الأمر يتعلق بأرضنا”المهددة بذلك.
وتقول مصادر أوروبية أنه منذ هذه الاحتجاجات، فإن إدارة ترامب بدأت تعتقد أن الإيرانيين في وضع أضعف وأنها باتت غير مستعدة لتقديم أي تنازلات مهمة للإيرانيين. وترى هذه المصادر أن دخول الولايات المتحدة موسم الانتخابات الرئاسية سيخفف من اهتمام ترامب في التعويل على أي مرونة في الموقف الإيراني، وترى في الوقت عينه أن طهران ستحاول عدم تقديم أي تنازلات قبل أن تفرج صناديق الاقتراع في الخريف المقبل عما إذا كان ترامب سيحكم الولايات المتحدة لـ4 سنوات قادمة أو أن مفاجأة ما قد تطيح به.