آراء مسرحيين عرب وأجانب في تجربة المسرح مع الرقمي والتفاعلي

يخلط بعض المسرحيين والكتّاب العرب بين فرضيتين، جرى تداولهما في الثقافة المسرحية خلال السنوات الأخيرة، هما فرضية “المسرح التفاعلي” وفرضية “المسرح الرقمي”، على الرغم من ندرة تحقّقهما في الممارسة المسرحية العربية، مقارنة مع الأنماط الشائعة التي عرفتها.
ويعود هذا الخلط، في اعتقادي، إلى شيوع مصطلح “الأدب التفاعلي” مرادفا لمصطلح “الأدب الرقمي” في كتابات بعض الكتّاب العرب عن الأدب الذي يُنشر إلكترونيا، ويقوم على دمج الوسائط الإلكترونية المتعددة: النصية والصوتية والصورية والحركية في الكتابة على فضاء ويسمح للقارئ بالتحكم فيه.
في حقيقة الأمر إن “المسرح التفاعلي” (سُمّي بالمسرح التحفيزي أيضا) يختلف عن “المسرح الرقمي”، فهو يشير إلى العرض المسرحي الذي يُقدّم في فضاءات مختلفة ويتفاعل فيه المتلقي والممثل على أساس ما يُعرف بـ”التغذية الراجعة” (Feed BacK)، أي أن العرض يُشرك المتلقي في الفعل المسرحي ويستجيب لردود أفعاله.
وفي هذا الصدد يحدّد المنظّر السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو سمتين مميزتين للعرض المسرحي تؤثران على طبيعة التلقي المسرحي الجماهيري: الأولى عملية تكوين العلامة المسرحية على الخشبة، تلك العلامة التي لا تمثلها اللغة، كما هي الحال في النص المكتوب، بل شيء، أو شخص حقيقي. ويرتبط بهذه العملية وعي المتلقي بالممثل، بوصفه ممثلا، الأمر الذي يعمل طوال الوقت على إبراز حقيقة أن عالم خشبة المسرح هو عالم مخلوق ومتخَيّل.
أما السمة الثانية فتتمثل في أن المتلقي حينما ينظر إلى الشخصية في العرض المسرحي قد يضحك عليها، أو يشتمها، فهي عملية تغذية راجعة، أو قد تبدر منه ردود أفعال إزاء ردود أفعال المتلقين المحيطين به، ومن ثم فإن الرسائل المسرحية تتشكل، أيضا، بواسطة عملية التغذية الراجعة التي ينتجها الطرف الآخر من عملية الاتصال.
وقد بنى إيكو تصوّره هذا بناء على تساؤل قدّمه عالم السيمياء الأميركي تشارلز ساندرز بيرس عن طبيعة العلامة التي تنشأ في موقف مسرحي تتحوّل فيه شخصية مسرحية من مجرد شخصية إلى علامة تشير إلى الطبقة التي تنتمي إليها، وما يراه المتلقي فيها من طبائع أو تصرفات هي بعض السمات الأساسية (أو الشفرات الاجتماعية) لتلك الطبقة.
وفي هذا السياق أيضا ترى الناقدة المسرحية الكندية سوزان بينيت أن الممثلين في أي عرض مسرحي يتأثرون بالتغذية الراجعة مع مستوى المتلقين ومواقفهم المتباينة من العرض، فهم، أي المتلقون، حين يتمتعون بالمعرفة والذائقة يمكنهم أن يسهموا في تشجيع الممثلين على تقديم عرض جيد، أما إذا كانوا متلقين قلقين يفتقرون إلى التركيز فإنهم يمكن أن يؤثروا سلبا على العرض، بحيث يتفكّك الفعل الدرامي على الخشبة ممّا يتسبّب في العديد من الأخطاء، واختلال الإيقاع، أو ضياعه، فلا يبقى إلّا أداء فردي فقير. وإذا ما حاول الممثلون السيطرة، بشكل ارتجالي، على المتلقين، فإن النتيجة ستكون اختلال توازن التأثير الكلي للعرض.
وتقرّر بينيت، في ضوء هذا الاستنتاج، أن التغذية الراجعة، والمسافة بين العرض ومتلقيه، على مستوى معين، تمثلان أهم عاملين في تشكيل وعيهم الجمعي. لكن، على الرغم من أن الاستجابة الجمعية هي استجابة متجانسة بشكل عام، فإن استجابة الفرد تجاه العرض تشكّل لبّ لذّة المتلقي.
وتخلص بينيت، في مقاربتها للتفاعل المتبادل بين المتلقين والممثلين، إلى أن العرض المسرحي يستطيع إثارة مجموعة مختلفة من الاستجابات، لكن المتلقين يظلون وحدهم، في نهاية الأمر، هم القادرون على إكساب العرض معناه وفائدته وقيمته، ذلك أنهم ليسوا مستقبلين للعلامات المسرحية فقط، بل منتجين لها أيضا حين يجري إشراكهم ذهنيا، وماديا (كما في المسرح التفاعلي) في إنتاج العرض. أي أن العلاقة بينهم وبين الممثلين تكون علاقة تبادلية ديالكتيكية.
وعلى الرغم من تعدّد صيغ المسرح التفاعلي وأشكاله باختلاف الزمان والمكان، فإن تجاربه الفعلية كثيرا ما تُنسب إلى الكاتب والمخرج المسرحي البرازيلي أوغستو بوال، من خلال “مسرح المضطهَدين” أو “المقهورين” الذي أسّس علاقة شراكة جديدة بين العرض المسرحي والمتلقين، بهدف دفع الحدث المسرحي إلى إيجاد الحلول الاجتماعية وتغيير الواقع، وليس التماهي معه، وعزل للناس عن دائرة الفعل، كما يحدث في المسرح التقليدي.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف اعتمدت تجارب بوال على تنفيذ ثيمات تُقترح آنيا، وتُؤدّى ارتجالا وتلقائيا، من دون إجراء تدريبات دقيقة حينما يتعلق الأمر بإشراك المتلقين كممثلين ومنتجين للأفكار ومناقشين للحلول المقترحة.
ويستنتج باحث عربي كتب بحثا أكاديميا حول المسرح التفاعلي أن ما يقدّمه هذا المسرح يترك آثارا، لا يمكن نسيانها على المدى القصير، تتمثل في اكتشاف الناس لأنفسهم من خلال التفاعل مع عروضه، التي تُعد بمنزلة لحظات تعارف، واكتشاف جماعي تتمحور حول أبعاد جماعية مشتركة ذات طابع إنساني وقيمي. وقد صار يُسْتخدم في المجالات التربوية والنفسية والاجتماعية والسياسية في المدارس والإصلاحيات وغيرهما.
أما “المسرح الرقمي” فيُقصد به ذلك المسرح الذي يعتمد على التقنيات الرقمية، في سياق ما تتيحه من عوالم افتراضية في بناء وسائط معالجته الفنية للفعل المسرحي والسينوغرافيا والمؤثرات الصوتية بما يثري الرؤية الإخراجية جماليا وفنيا ودلاليا، ولذلك سُمي أيضا بـ”مسرح التقنيات الرقمية”.
وقد حاول الباحث العراقي محمد كاظم الشمري تعريف العرض المسرحي الرقمي، في أطروحة دكتوراه، بأنه “العرض الذي يعتمد في تشكيله على جميع التقنيات الرقمية المسرحية التي تضم (أجهزة الكمبيوتر وملحقاته وبرامجه، أجهزة الإسقاط الضوئي، أجهزة الإضاءة الرقمية، أجهزة الشاشات الرقمية، أجهزة الموسيقى والمؤثرات الصوتية الرقمية، أجهزة الهولوجرام، وأجهزة الأشعة الليزرية). وتكون هذه الأجهزة التقنية الرقمية بمثابة العصب الرئيسي في تشكيل هذا العرض”. وقد رأى بعض المتحمسين للمسرح الرقمي أنه الصيغة المسرحية القادمة لا محالة، بل إن استثمار التقنيات الرقمية هو المستقبل الأوحد للمسرح العالمي والعربي.
وفي الحقيقة سبق للمسرحيين في الغرب أن استخدموا قبل عقود تقنية الليزر في إنشاء المناظر أو السينوغرافيا، وهي افتراضية بالطبع، قبل حدوث الثورة الرقمية واستخدام معطياتها في الفنون، فكان المتلقون يرون أمامهم على خشبة المسرح شكلا وهميا لقلعة أو لقصر فخم أو لسجن كبير سرعان ما يختفي بانتهاء المشهد.
أعود إلى ما أشرت إليه في بداية المقال، لأؤكد أن المسرح الرقمي لا يزال في حياتنا المسرحية العربية أقرب إلى الفرضية منه إلى الوجود الفعلي، وإذا ما أصبح له حضور معتبر فلا أتمنى أن يمسخ روح المسرح ومادته الأساسية الإنسان، فاعلا وهدفا.