قطر.. جريمة قيد الإعداد

تراهن حكومة حزب الله الجديدة في لبنان على قطر لإخراج المالية اللبنانية من الهاوية الاقتصادية الراهنة. وفي الواقع، فإن حكومة الحرس الثوري الإيراني التي يقودها حسان دياب، لا تملك منفذا آخر للحصول على تمويلات تحول دون عجز لبنان عن سداد أقساط ديونه.
فالولايات المتحدة، بما لها من نفوذ على صندوق النقد والبنك الدوليين، والاتحاد الأوروبي، وجهات الدعم الأخرى، كلها تشترط أن يرفع حزب الله يده عن اقتصاد لبنان، وأن يكف عن نهب الخزانة العامة بما يمارسه من أعمال التهريب وتبييض الأموال وتجارة المخدرات وغيرها من الأعمال غير المشروعة. وأن يكف، على وجه الخصوص، عن تحويل ميزانية الدولة إلى مرتع خصب للشركات التابعة له لتمويل عملياته الإرهابية ونشاطاته داخل لبنان وخارجه.
ولو حدث أن قدمت قطر الدعم المالي المطلوب لهذه الحكومة فإنها ستكون قد ارتكبت جريمة متعددة الأقطاب، ضد شعب لبنان الذي يطالب بتغيير النظام الطائفي، وضد الأمة العربية التي تواجه التحديات والتهديدات الإيرانية كل يوم، وضد المجتمع الدولي الذي يطالب بإصلاحات، ومن بعد كل ذلك ضد استقرار لبنان نفسه.
ماذا يعني تقديم الدعم لحكومة تتلقى أوامرها، في النهاية، من “الولي الفقيه”؟
إنه يعني مواجهة مباشرة مع تطلعات الملايين من اللبنانيين الذين ضاقوا ذرعا بنظام الامتيازات الطائفية وفساده وهيمنة إيران عليه.
الدعم، في هذا الظرف، خيار لا يقدم عليه إلا من يقدم نفسه كعميل صريح لخدمة مشاريع إيران التوسعية. وهو خيار عدواني، بكل ما للكلمة من معنى، ضد إرادة شعب يطالب بالتغيير.
اللبنانيون لن ينظروا إلى هذا الدعم إلا على أنه صفعة على الوجه. صحيح، أن اقتصاد بلادهم يحتاج الدعم، ولكن تسليمه إلى حكومة يتحكم بمصيرها لواء الحرس الثوري الإيراني لن يقدم لهم ولا للاقتصاد أيّ خدمة.
إنه ليس عملا استثماريا أيضا. فالفساد الذي دفع لبنان إلى تبديد موارده، وأوقفه على حافة الإفلاس، وجعل دينه العام يبلغ 150 بالمئة من إجمالي ناتجه الإجمالي، وتعجز مصارفه عن تسديد الودائع بالدولار، وتتقلص احتياطاته النقدية إلى نحو 28 مليار دولار فقط، لا تكفي لتمويلات بضعة أشهر، لن تنفعه لا عشرة ولا عشرين مليار دولار، لأنها ستضيع كما ضاعت قبلها العشرات من المليارات على نظام الفساد والمحسوبيات القائم. وهو ما يعني أنه من دون إصلاح حقيقي، يحول دون تدخل الأحزاب الطائفية في شؤونه، فإن المال لن يعود بأيّ فوائد، لا على لبنان ولا على من يستثمر فيه.
إنه نوع من شق العصا على إرادة المؤسسات الدولية التي أعربت عن استعدادها لمساعدة لبنان وتعهدت بتقديم 11 مليار دولار، إنما مقابل إصلاحات حقيقية.
لا تستطيع قطر، وليس من اللائق لها من الأساس أن تحل بديلا عن المؤسسات الدولية التي تعهدت بتقديم ذلك الدعم.
بمعنى آخر، فليس لأنك تملك بضعة قروش زائدة، فتأتي لتستخدمها للمزايدة على ما تراه تلك المؤسسات ضروريا لتقديم الدعم، ولا أن تحل محلها. المسألة في النهاية ليست مسألة فائض مال. إنها مسألة مجالات نفوذ.
إنه خدمة مجانية للمشروع التوسعي الإيراني. فبمنح سلطة الولي الفقيه في لبنان الفرصة للاستقرار، أو لالتقاط الأنفاس، تكون قطر قد ساعدت هذا المشروع لكي يمضي قدما في تدخلاته وأعماله العدوانية ويغذّي قدرة ميليشياته على ارتكاب المزيد من الجرائم.
الكل يفهم أيضا أن سقوط النظام الطائفي في لبنان يعني سقوطه في العراق، كما يعني سقوطه في اليمن. والعواصم العربية الأربع التي تباهت إيران بالسيطرة عليها وعلى قرارها، بمقدار مكشوف من الوقاحة والصلف، سوف تتداعى لتضع مصير النظام الإيراني نفسه موضع سؤال. ولكن لو حدث أن قدمت الدوحة دعما ماليا يحول دون سقوط النظام الإيراني في لبنان، فكأنها تريد أن تقول إن العواصم الأربع زادت واحدة بدلا من أن تنقص.
تخطئ قطر، شديد الخطأ، لو ظنت أن نظاما كالنظام الذي ترعاه إيران في لبنان، يمكنه الاستمرار. فبسبب من طبيعته ذاتها، فإنه سائر إلى الانهيار. كما تخطئ قطر خطأ أشد، لو ظنت أنها بعشرة مليارات إضافية أو عشرين مليارا، سوف تتمكن من إحباط الحراك الشعبي المناهض للهيمنة الإيرانية، ولنظام الميليشيات القائم هناك.
لقد بلغ السيل الزبى بالناس. والمال الذي لم ينفع على امتداد الثلاثين عاما الماضية، في الحفاظ على الاستقرار، فإنه لن ينفع في جلبه بعد أن ضاع وسقط في الشوارع والساحات.
يعرف اللبنانيون جيدا، حقيقة بسيطة: المال ليس هو المشكلة. بل كيف تنفقه، وبيد من تضعه.
اللبنانيون في الخارج، وهم شعب أكبر في الواقع من اللبنانيين في الداخل، يكفون بمفردهم أن يحلوا مشكلة المال. وبوسع استثماراتهم أن تحوّل بلدهم إلى جنة. ولكنّ بلدا تحول إلى رهينة، وتهيمن على حياته محسوبيات الفساد، لم يعد صالحا لأيّ استثمار.
الرهينة يجب أن تتحرر أولا. وقطر إذا مدت يد العون للمجرم الذي يحتجزها، فإنها تكون قد ارتكبت جريمة أبشع إذ ترى الرهينة تتمرغ بالتراب وهي تحاول الإفلات.
لا شيء في الدنيا، ولا الآخرة، يمكنه أن يغفر للدوحة عملا كهذا في هذا الوقت بالذات.