دوائر الاقتصاد والمال التركية تخشى استدارة قطرية

كثف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الفترة الأخيرة من الإشادة بالعلاقة التركية القطرية. وواكبت وسائل الإعلام التركية بشكل مكثف زيارته إلى قطر في شهر نوفمبر الماضي، وعملت على تضخيم أهمية المكاسب الاقتصادية الناتجة عنها. مع ذلك، فشلت أنقرة في إخفاء ملامح القلق التي تسود دوائرها المالية والعسكرية والسياسية من انقلابات قد تحدث في العلاقة مع الدوحة.
لندن - شهدت العلاقات التركية القطرية تطورا سريعا وربطت بينهما أسس أيديولوجية وأوضاع سياسية مستجدّة وعابرة في المنطقة. كان لهذا “التلاقي” السياسي تأثير على الميزان التجاري التركي بعد أن فتحت قطر أسواقها للشركات والبضائع التركية؛ كما تعهّدت الدوحة في 2018، بتقديم 15 مليار دولار كاستثمارات مباشرة لدعم الاقتصاد التركي، إلا أن ذلك لا يبدو كافيا لطمأنة دوائر الاقتصاد والمال التي تخشى استدارة قطرية.
تتخوّف تلك الدوائر من تأسيس برامج ومشاريع كبرى على أسس وعود بلد صغير مثل قطر معزول في محيطه ومحاصر بالكثير من المشاكل التي صنعتها قيادته، ومعروف بتاريخه “الانقلابي” على الحلفاء. فالدوحة كانت من أبرز أصدقاء الرئيس السوري بشار الأسد، والعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، لكنها انقلبت عليهما ودعمت جماعات المعارضة التي أشعلت الحروب في هذين البلدين وفي غيرهما، وهي اليوم تواجه مقاطعة من أقرب الدول إليها.
وثمّن قايل غور، مدير عام “ألترناتيف بنك” التركي، في تصريحات لوكالة أنباء الأناضول، “زيادة مقدار اتفاقية مبادلة العملات بين بنك قطر المركزي ونظيره التركي”، مشيرا إلى أنها بمثابة إجراء مهم للغاية من أجل تعزيز العلاقات التجارية بين البلدين من خلال عُملتيهما.
وعكست تصريحات غور القلق التركي من مواقف قطر عندما استخدم لغة الأرقام في إشارات غامضة. وبدا ذلك واضحا حين عرض بشكل ملتبس أرقام الصادرات القطرية إلى تركيا ما بين عامي 2015 و2018. من دون أن يوضح طبيعة هذه الصادرات التي يمكن أن توفرها قطر للسوق التركية.
وذكر غور أن إدارة “ألترناتيف بنك” ستساعد الشركات التركية بخبراتها المعرفية لاكتشاف مجالات الاستثمار في قطر، موضحا أنهم يقومون بدور جسر للاستثمار بين أنقرة والدوحة لزيادة الاستثمارات المتبادلة بين الجانبين.
قايل غور مدير بنك تركي يعكس القلق من مواقف قطر بلغة الأرقام الملتبسة
وتابع “بنكنا مستعد لتقديم الخدمات الاستشارية لكافة الشركات التي تريد التجارة مع قطر، وترغب في التعرف على مستثمرين هناك، سواء كانت هذه الشركات عميلة للبنك أم لا”.
وأشار إلى أنهم أضافوا الريال القطري إلى قائمة تداول العملات الصعبة التي يتم البيع والشراء بها في تركيا، وأنهم بدأوا في البنك بتحصيل المدفوعات بهذه العملة.
وأبرم البنك المركزي التركي اتفاقية مع نظيره القطري حول مبادلة، وبلغت قيمة المرحلة الأولى من الاتفاقية 3 مليارات دولار. وتهدف هذه الاتفاقية إلى تسهيل عمليات التجارة بين البلدين بالعملة المحلية، مع توفير السيولة والدعم اللازمين للاستقرار المالي.
وأشار غور إلى أن الاستثمارات القطرية في تركيا، في ازدياد مستمر لاسيما في القطاعات الاستراتيجية. لكن مساعي التأكيد على أهمية الأموال المتدفقة بين البلدين فشلت في إخفاء نبرة القلق مما قد يحدث في المستقبل حيث لا يأمن رجال الاقتصاد والمال الأتراك تغيّر المواقف القطرية، نظرا لأن الدوحة لا تمتلك قرارها السياسي والاقتصادي، وإلى جانب علاقتها المتبدّلة حسب المرحلة وعلاقتها المتوترة في محيطها، يمكن أن تقع الدوحة تحت تأثيرات قوى كبرى على رأسها الولايات المتحدة، التي تشهد علاقتها بأنقرة توترا متصاعدا.
والأربعاء الماضي، تبنّت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي اقتراح قانون يدعمه الحزبان الجمهوري والديمقراطي، يفرض عقوبات قاسية على تركيا ومسؤوليها على خلفية صفقة شراء صواريخ أس-400 والهجوم على وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا. والخميس، زاد مجلس الشيوخ الطين بلّة بتبنّيه بالإجماع نصا “من أجل إحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن عبر الاعتراف بها رسميا”، في إشارة للمذابح التي تتهم السلطنة العثمانية بارتكابها في العام 1915.
من هنا، تفترق حسابات المال عن حساب السياسة، وتصبح الـ23 مليار دولار، وهي مجموع الاستثمارات القطرية المباشرة في تركيا، جزءا من عملية مؤقتة يخشى من أن تنتهي بانتهاء الأسباب التي أدت إلى التحالف بين تركيا وقطر.
تحالف مصلحي
من خلال تقارب، أساسه دعم الحركات الإسلامية المتشددة التي يكاد يحصل إجماع دولي على تجريمها وتصنيفها في خانة الإرهاب، بحثت قطر لدى تركيا عن حاضنة إقليمية لها بديلة عن الحاضنة الخليجية، في مسعى لا يخلو من مخاطر ومحاذير.
ويصف المراقبون تقارب أنقرة والدوحة بأنّه تحالف مصلحي، لجهة قيامه على “نزوات سياسية”، مرتبطة بوجود إسلاميين على رأس الدولة التركية، مشيرين إلى أن ذلك التحالف سيزول بزوال حكومة العدالة والتنمية من الحكم.
كما يصفون ذلك التحالف بـ”الأعرج” نظرا لعدم تكافؤ طرفيه، ما يجعل قطر المعزولة في محيطها القريب، عرضة للاستغلال وحتى الابتزاز من قبل تركيا التي تفوقها قدرات في كل المجالات.
وملثما تبحث الدوحة عن حاضنة، تحاول أنقرة، عبر الأموال القطرية، التعويض عن بعض خسائرها الاقتصادية الناجمة عن الوضع الإقليمي المتوتّر الذي ساهمت أصلا في خلقه.
ويشير دايفيد ليبسكا، الكاتب في موقع أحوال تركية، إلى أن العلاقة الوثيقة التي ظهرت بين تركيا وقطر في السنوات الأخيرة نشأت بدافع الضرورة أكثر حتى من التقارب الأيديولوجي.
ويذهب خبراء إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن ما تتطلع إليه تركيا من قطر يتجاوز الاستثمارات والتوافق الأيديولوجي، معتبرا أن الدوحة لا تنفصل عن “خارطة التواجد العثماني” التي يسعى إليها أردوغان.
وتحدث في هذا السياق دايفيد روبرتس، المحاضر في كلية كينغز كوليدج لندن ومؤلف كتاب “قطر: تأمين الطموحات العالمية للمدينة الدولة”، قائلا “يمكننا العودة إلى قرن من الزمان أو أكثر… كان الأتراك العثمانيون، لديهم موطئ قدم في قطر لعدة عقود”.
وتوقع ليبسكا “تآكل التحالف بمجرد أن تتمكن الدوحة من إنهاء الأزمة مع جيرانها الخليجيين”. كما قال روبرتس “الجغرافيا ستنتصر في النهاية… أعتقد أن دول مجلس التعاون الخليجي ستدرك في نهاية المطاف مدى قواسمها المشتركة. وسيؤدي هذا على الأرجح إلى حدوث تحول تدريجي في العلاقات بين تركيا وقطر، قبل أن تتحول الأخيرة مرة أخرى إلى علاقاتها الوثيقة مع جيرانها الخليجيين”.
ويبدو أن هذا أكثر ما يقلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي استبق قمة دول مجلس التعاون الخليجي الأخيرة بزيارة إلى قطر أثنى فيها على “الدوحة التي وقفت مع أنقرة في لحظات عصيبة”. وشهدت الزيارة، التي دامت يوما واحدا توقيع الجانبين على 7 اتفاقيات في عدد من المجالات.
كما أشاد أردوغان بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في معرض رده على سؤال وُجه له حول القادة التاريخيين الذين تأثر بشخصياتهم، وذلك خلال مشاركته، الثلاثاء 10 ديسمبر، في برنامج لجامعة بيلكنت بأنقرة، وقال إنه “شاب وديناميكي، ويقف إلى جانب الدول الفقيرة، أما في أوروبا فلا أجد قائدا بالمعنى الحقيقي حاليا”.
وقال محلل الشأن التركي في موقع “مونيتور” بينار ترامبلي، إن أنقرة تخشى من أن ذوبان الجليد في العلاقات السعودية القطرية قد يؤثر سلبا على الوجود العسكري التركي في قطر.
واستشفّ ترامبلي هذا الخوف في بيان أردوغان في الدوحة. حيث بعد تكرار التأكيد على أن الأمن القطري، بالنسبة إليه، هو نفسه الأمن التركي، قال أردوغان “أولئك الذين يطالبون بإغلاق القاعدة لا يعرفون أن قطر هي صديق بلدنا في الأيام الصعبة. لم نترك أصدقاءنا وحدهم، ولن نتركهم. نحن نهتم بسلام واستقرار الخليج. نعتقد أن هذه المنطقة تؤثر على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط”.
وقال دايفيد روبرتس “يمكن أن يستغرق منحدر الهبوط وقتا… نحن عند الذروة، وربما ننزل قليلا من الذروة”. وبالحديث عن مؤشر النزول، يلفت مراقبون في حديثهم عن “منغصات” التحالف بين أنقرة والدوحة إلى التوتر “الخفيف” الحاصل في مطلع شهر نوفمبر الماضي، بسبب برنامج عرضته قناة الجزيرة الإنكليزية والذي قالت صحيفة دايلي صباح، المقربة من النظام التركي، إنه قد يؤدي إلى “انهيار” العلاقات بين تركيا وقطر.
وأثارت الصحيفة ضجة، حيث كتبت في افتتاحيتها “هذا التحالف، الذي يبدو أنّه لا يتزعزع، أصبح اليوم مهدَّدا من داخله”. واتّهمت الصحيفة الجزيرة الإنكليزية بأنّها “تنشر دعاية مضادة لتركيا تحت ادّعاء الصحافة المستقلة والحيادية”، في تغطيتها للعملية العسكرية التي تشنّها تركيا ضدّ الأكراد في شمال شرق سوريا.
جمعت الفوضى التي استشرت في المنطقة منذ سنة 2011 تركيا بقطر، بالإضافة إلى طرف ثالث، كوّن معهما مثلث الفوضى، وهذا الطرف هو إيران، التي اجتمعت أيضا مع قطر على خلفية أزمة الأخيرة مع دول الخليج العربي ومصر. كما تتفاخر تركيا وإيران بتحالفهما الراهن، لكن المراقبين يؤكدون أنه بدوره تحالف هش، سعى إلى التمرد على الولايات المتحدة وللالتفاف على الدور الروسي، ومستقبله لن يكون أفضل من مستقبل التحالف الذي يجمع الدول الثلاث: قطر وتركيا وإيران.