الكتاب فضاء إنساني

يوم قرأت ما كتبه الروائي الأميركي بول أوستر عن الكتاب، قائلا: الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه غريبان كاملان أن يلتقيا بحميمية كاملة، قادني هذا القول إلى أن أستغرق في كل ما يشير إلى علاقة الإنسان بالكتاب، وهي علاقة يندر أن تشبهها علاقة الإنسان بشيء آخر، فكتاب ما، قرأه إنسان منذ مئات السنين، ثم تواصلت قراءاته، في ما تلا القراءة الأولى، في مختلف العصور، وربما يقرأه أناس في هذه الساعة، في جغرافيات مختلفة، وربما في أكثر من لغة.
وليس من غير الممكن أن يقرأ مثل هذا الكتاب، قارئان ينتسبان إلى قارتين مختلفتين وبلغتين مختلفتين أيضا، وفي وقت واحد، وربما يكون لكل واحد منهما رأي في ما ورد فيه، وكل منهما يحاور هذه المعلومة أو تلك الفكرة، حتى كأن الحوار يتواصل بينهما وهما في بلدين مختلفين ولغتين مختلفتين، وكل منهما يجهل لغة الآخر.
وقد يقرأ هذا الكتاب إمبراطور أو ملك أو زعيم وفي الوقت ذاته يقرأه عامل بسيط أو مزارع أو حرفي متواضع، كما يمكن أن يقرأه خصمان لدودان، كل منهما في موقعه، ورغم الخصومة بينهما، قد يعيشان الحالة ذاتها، من قبول أو رفض ما جاء في الكتاب المذكور، وقد يتحاوران من خلال حوار كل منهما في ما قرأ.
حين أقرأ شكسبير، أتخيل قارئا يابانيا وآخر في مدينة برازيلية وثالثا في قرية أفريقية، يقرأون ما أقرأ، وأتساءل، إنْ كان موقف كل واحد منهم، من بروتس في مسرحية يوليوس قيصر، هو موقفي ذاته، أم أن لكل واحد منهم موقفه منه، ويفهم صرخة يوليوس قيصر: حتى أنت يا بروتس، بتأثير ثقافة وتربية تختلفان عن ثقافتي وتربيتي؟
ومثل هذا التخيل، لا يتجاوز الواقع كثيرا، ومن المحتمل أن يحدث، فَمَنْ منّا، لم يتحدث في مجلس عام عن كتاب قرأه، فيجد من شاركه قراءة ذلك الكتاب، وهذه المشاركة في القراءة تقود إلى حوار بين قارئين وقراءتين، فيهما من الاختلاف بقدر ما فيهما من الائتلاف، وقد يجري مثل هذا الحوار من دون لقاء، حيث يقرأ المرء كتابا ويخرج من قراءته بانطباعات تختلف أو تتفق مع انطباعات نتجت عن قراءة أخرى مختلفة في الزمن أو المكان أو اللغة، وتنتقل كل من هاتين القراءتين من المحيط الخاص الذاتي إلى العام الاجتماعي، وبهذا الانتقال يتاح لهذه الانطباعات التلاقي والحوار والتأثر والتأثير.
وتلعب الترجمة دورا حاسما في ما أشرت إليه من قبل، فكتاب مثل ألف ليلة وليلة، كان ومازال حاضرا ومؤثرا في مجتمعات وثقافات، غير المجتمع البغدادي الذي تمثلته حكايات الليالي وفي مراحل زمنية غير المرحلة الزمنية التي انتقلت فيها تلك الحكايات من الفضاء الشفهي إلى فضاء الكتابة.
وهنا يجدر بنا أن نقول، لو ظلت حكايات الليالي في حالتها الشفهية ولم تدخل حالة الكتابة لما أتيح لها أن تكون كتابا يترجم ويقرأ، ويدخل في مجال الحوار والبحث والدراسة، وهي السبيل والعامل الأساسي إلى التأثير، إذ مازال كتاب ألف ليلة يترجم ويقرأ ويناقش، ويتواصل البحث عن مصادره ورواياته ورواته وحاضناته المكانية وشخصياته التاريخية أو الأسطورية، الحقيقية أو المتخيلة، كما تتوالى تصريحات الباحثين الروس والاسكندنافيين، أنهم عرفوا صفحات مطوية وغامضة من تاريخهم وحياتهم الاجتماعية في الماضي مما كتبه الرحالة والدبلوماسي العربي إبن فضلان، وهذا يعني، لو لم يكتب ابن فضلان رحلاته إلى تلك الأصقاع في كتاب لضاعت حقائق ومعلومات تاريخية مهمة وكثيرة.
كما أن ما كتبه الفقيه والمؤرخ الطبري في موسوعته التاريخية، ظل مصدرا أساسيا لمعرفة تاريخ البلغار والشعوب السلافية، ومنهم من قال: لولا تاريخ الطبري لضاع الكثير من تاريخنا القديم، ورغم تقدم وسائل اكتساب المعرفة منذ بداية الثورة الصناعية حتى مرحلة الثورة الإلكترونية في أيامنا هذه، لم يفقد الكتاب أهميته، وجميع المعلومات التي تصلنا عن طريق وسائل غير الكتاب، نحاول تدقيقها والاطمئنان إليها من خلال مراجعة كتاب موثق وكاتب ثقة.
حتى الأفلام السينمائية المهمة والناجحة التي اعتمدت في أحداثها على رواية أو كتاب تاريخي أو رحلي، نرى الكثيرين ممن شاهدوها وأعجبوا بها يحرصون بعد مشاهدتها على قراءة مصدرها، رواية كانت أو كتابا تاريخيا أو رحليا، وأستشهد هنا بما قاله المفكر والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو في معرض حديثه عن روايته الأكثر شهرة “اسم الوردة” حيث قال: إن كثيرين قرأوا الكتاب بعد مشاهدة الفيلم أي أنهم لم يعوضهم الفيلم عن قراءة الرواية.
وليس ما ذكره إمبرتو إيكو في هذا الشأن، فريدا، فأنا شخصيا كلما شاهدت عملا دراميا، فيلما أو مسرحية أو تمثيلية تلفازية، ورغم كل ما أفيد منه، معرفة وغنى تجربة، وما يمنحني من متعة وسعادة، أجدني أبحث عن النص المكتوب، مسرحية أو رواية أو كتابا رحليا أو تاريخيا، وفي هذه التجربة، تجربة العودة إلى الكتاب، تعلمت أن قراءة الكتاب تمنح من المعرفة والسعادة ما هو مختلف عما يمنحه الفيلم والمسرحية والدراما التلفزيونية.
ويقول بول أوستر “الكتب الحقيقية تعيش إلى الأبد، لا تنفك تولد من جديد وتتجدد كلما لمسها قارئ من جيل جديد”.
وليس الكتاب وحده الذي يتجدد، بل يتجدد القارئ-الإنسان أيضا، حين يقرأ كتابا حقيقيا في ما يتوفر عليه من تجربة تجمع بين الفكر والجمال، مهما كان العصر الذي ينتسب إليه، أو الثقافة، والاختلاف في عصر وثقافة الكتاب الذي نقرأ، يفتح مجالا للتواصل التاريخي والإنساني، حيث تتسع مجالات الائتلاف وتضيق مجالات الاختلاف بين الإنسان والإنسان.
وهكذا يكون الكتاب، فضاء إنسانيا.