مالي تترك جواهرها الأثرية فريسة للإهمال والنسيان

الثقافة ليست في قلب أولويات بلد غني بالتراث والمواقع الأثرية المدرج بعضها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) والبعض الآخر شكّل مهد العديد من الإثنيات والإمبراطوريات، ويعود هذا الإهمال الكبير إلى تركيز مالي على فض مشكلاتها الأمنية وفك النزاعات.
باماكو – تتصدر المشاكل الأمنية في مالي سلم الأولويات، ما ينعكس إهمالا للثقافة في هذا البلد الغني بالتراث والذي يشكّل مهد الكثير من الإثنيات والإمبراطوريات، ويعرّض تاليا الكثير من الآثار القيّمة للخطر.
فقد وقعت مدينة تمبكتو، الملقبة بجوهرة الصحراء المتربعة على الرمال، حاضرة الثقافة الإسلامية في الغرب الأفريقي وملتقى القوافل التجارية في الصحراء، تحت سطوة الجهاديين الذين دمّروا جزءا كبيرا من أضرحتها الشهيرة المخصصة لـ333 من الأولياء المسلمين، وأعيد بناؤها كما كانت بإشراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بوصفها مدرجة في قائمة التراث العالمي للبشرية منذ عام 2012.
وهذا التدمير الذي أدى إلى خسائر ثقافية جسيمة دفع اليونسكو إلى إعادة تصنيف المدينة ولكن بوضعها على قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر.
وشيدت هذه الأضرحة بغية حماية المدافن، تم تشييدها من الطين في تمبكتو، بعض المدافن موجودة في المدينة أو في مقابر وأخرى في مساجد، وتضم حاليا 22 ضريحا سليما في الإجمال، أدرج 13 منها على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وكانت هذه القائمة تعد في الأساس 16 ضريحا ولكن 3 منها اندثرت بفعل تراكم الرمال.
واكتسبت تمبكتو لقب مدينة الـ333 وليا بسبب هؤلاء الأولياء الذين دفنوا في الأضرحة، وهم يعادلون القديسين لدى المسيحيين. تدل هذه الأضرحة مع المساجد التاريخية في المدينة على أنها كانت أماكن حج إلى مالي وإلى البلدان المجاورة في غرب أفريقيا.
ولعل أكثر الزائرين لهذه المدينة التي تعاني بدورها من الإهمال الأميركيون الذين يأتي أحدهم خصيصا لختم جواز سفره في تمبكتو. ورغم تواضع هذه المدينة اليوم، فإن معظم وكالات السفر تقدمها دائما على أنها “المدينة العجيبة” أو “جوهرة الصحراء”.
وكتب عنها المستكشف الفرنسي، روني كاياي، ووصفها وصفا دقيقا في كتاباته عام 1828. ولعل الخيال الأوروبي الواسع هو الذي جعل هذا الاهتمام يتضاعف رغم حالة الاحتضار التي تشهدها هذه المدينة. فرغم أن هذه الاكتشافات بدأت واستمرت بعد أفول شمس تمبتكو، إلا أن كتابات أصحابها تتحدث دوما عن سحر غامض، وانبهار دائم.
وتشتهر مالي أيضا بالجامع الكبير في جينيه الذي يعدّ من أبرز معالم الهندسة المعمارية التقليدية في بلاد السودان والساحل.
والمسجد الكبير هو أكبر صرح من الطوب اللبِن في العالم، ويعتبره الخبراء أعظم مثال للمعمار في الرقعة الأفريقية المعروفة باسم بلاد السودان والساحل وإن كان الأثر الإسلامي واضحا فيه. كما يعتبر من أهم وأبرز معالم القارة السمراء ككل. ولهذا صنفته هيئة اليونسكو، مع المدينة القديمة في جينيه نفسها، «تراثا عالميا يتوجب على الأسرة الدولية أن تحميه». ومدينة جينيه تعد من أقدم المدن المعروفة في جنوب الصحراء الكبرى. وفي القرن السادس عشر تحولت إلى مركز للعلوم الإسلامية.
التدمير الذي أدى إلى خسائر ثقافية جسيمة في تمبكتو دفع اليونسكو إلى إعادة تصنيفها لكن ضمن قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر
وتضاف إلى هاتين الجوهرتين، منحدرات باندياغارا الصخرية (الوسط) في بلاد دوجون ومدفن اسكيا في الشمال، وهي كلّها واقعة في مناطق تشهد نزاعات ويتعذّر الوصول إليها اليوم.
ويملك موقع باندياغارا، بالإضافة إلى مناظره الطبيعية الخلابة المؤلّفة من الصخور والهضبات الرمليّة التي تتميّز بالمباني الجميلة (كالبيوت ومخازن الغلال والمعابد والملاجئ)، تقاليدَ اجتماعيّة مدهشة لا تزال تُمارس حتى اليوم (كالأقنعة والاحتفالات الدينيّة والشعبيّة والشعائر الدينيّة التي تُقام بصورة دوريّة للأجداد في مناسبات عديدة).
وتُعتبر هضبة باندياغارا أحد أهم المواقع في غرب أفريقيا ويعود ذلك إلى صفاتها الجيولوجيّة والأثريّة وتنوّع الشعوب التي سكنتها ومناظرها الطبيعيّة.
و«جرف باندياغارا» إحدى عجائب الطبيعة فهو عبارة عن واجهة صخرية ترتفع إلى حوالي 300 متر من الصحراء وفيها أقامت قبيلة «تيليم» تجمعاتها السكانية التي ترجع إلى عام 300 قبل الميلاد. والسبيل الوحيد الذي يمكن بواسطته أن يصل السكان إلى بيوتهم الصخرية التي ساعد طقس الصحراء الجاف على المحافظة على محتوياتها تماما هو استخدام حبال تتدلى من قمة ذلك الجرف.
يرقد جثمان بيتون ماماري كوليبالي الذي حكم مملكة بامبارا في مدينة سيغو (جنوب مالي شمال شرق العاصمة باماكو)، منذ القرن الثامن عشر في قبر على ضفاف نهر النيجر، وقد يصبح “ماضيا منسيا” بسبب إهمال المواقع التراثية في البلد، وهو ما يحذّر منه أحد أحفاد الملك.
وقال كوكيه كوليبالي، زعيم بلدة سيغو-كورو التي كانت سابقا عاصمة مملكة بامبارا الإحيائية التي كانت تمتدّ على جزء كبير من مالي في حقبة ازدهارها، “لا بدّ من الحفاظ على هذا الضريح، فهو جزء من ثقافتنا الجماعية”.
وقد شُيّد هذا الضريح إلى جانب جامع أمغر، وهو محاط بجدار انهار جزء منه.
وأضاف كوليبالي “لا بدّ من أن نهتمّ به جميعنا كي يثير تراثنا اهتمام العالم. فمن دون أعمال صيانة، سيصبح الضريح ماضيا منسيا”.
ولا يحظى هذا الضريح المشيّد في موقع وادع بالزيارات، إذ بالكاد يزوره خمسون شخصا يوميا، ومن بين زوار أحد أيام الأحد، أربعة رجال في عقدهم الثالث من باماكو انتهزوا زيارة عائلة إلى سيغو لرؤية قبر الملك.
ويقول أحدهم واسمه آداما “هناك لافتة تعريفية، لكن لا بدّ من بذل المزيد من الجهود لإبراز تاريخ المملكة وتوضيح الأمور فعلا للزوار”.
في بلد يشهد منذ العام 2012 حركات تمرد من انفصاليين وأخرى من متشددين، فضلا عن أعمال عنف دامية بين إثنيات متناحرة، ليست الشؤون الثقافية في قلب الأولويات وليس الترويج لتراث سكان البلد البالغ عددهم 18 مليون نسمة بالمسألة السهلة.
في وسط البلد الذي يرزح بدوره منذ العام 2015 تحت وطأة أعمال عنف كانت بداية محصورة في الشمال، من الصعب الوصول إلى البلدات بسبب الاضطرابات السائدة.
وأفاد بوكونتا سيسوكو، المسؤول عن البعثة الثقافية في سيغو والذي كان يقوم بجولات بالدراجة النارية أو شاحنة البيك آب لملاقاة السكان، “يتعذّر الوصول إلى ما يقرب من نصف الدوائر” الإدارية.
وتابع سيسوكو “ينبغي تخصيص موارد تقنية ومالية للخبراء في الشؤون الثقافية كي يتسنى لهم الوصول إلى القيمين على التراث الذين قد يكونون من الزعماء القبليين ليتمكن هؤلاء من تنمية الوعي في أوساط مجتمعاتهم”.
وحظرت الدولة لأسباب أمنية استخدام الدراجات النارية وشاحنات البيك آب الصغيرة التي تعوّد الجهاديون على استخدامها. وبالرغم من رفع هذا الحظر في أغسطس الماضي، في سيغو، لم يتسن لسيسوكو بعد استئناف جولاته. وبات الأخير يفضّل استخدام الأثير، قائلا “يستمع الناس إلى الراديو، وهو وسيلة جدية”، مطالبا بزيادة الموارد المالية المخصصة لهذا الغرض.
في ظلّ النزاعات المحتدمة وما خلفته من ضحايا بوتيرة شبه يومية، لم تخصص مالي التي تعدّ من أفقر الدول في العالم، هذه السنة سوى حوالي 13.3 مليون يورو لميزانية الثقافة، في مقابل 278 مليارا (أكثر من 423 مليون يورو) لقطاع الدفاع.
ويقول دولاي كوناتيه، أستاذ التاريخ في جامعة باماكو، إن “مشقات الحياة اليومية لا تسهل الأمور، فجل ما يهمّ الناس هو تأمين سبل الصمود”.
ولفت كوناتيه إلى أن “المسألة تكمن في التمسك بالتراث، وهي مطروحة منذ ما قبل اندلاع الأزمة. ولا بدّ من أن يجد الجيل الشاب مكانا له في الخطاب الوطني. والأمر يزداد صعوبة عندما يبدو التاريخ بعيدا جدا في الزمن”.
وفي سيغو، باء “اليوم الوطني للتراث” بالفشل في أواخر سبتمبر الماضي، ولم تستقطب فعالياته سوى بضعة أشخاص.
وأضاف كوناتيه “لدينا تراث مشترك يجمعنا على اختلاف مشاربنا”.