الرمال وافد جديد على قائمة الثروات المفجرة لأزمات في العالم

ازداد الطلب العالمي على الرمال بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة وذلك بالتزامن مع نمو البلدان وتطور البنى التحتية فيها. لكن هذا الطلب المتزايد ترافقه تحديات كبيرة ومخاطر على هذه المادة الموجودة في الطبيعة ما يؤثر على وفرتها ويهدد بتداعيات بيئية واجتماعية تزداد تعقيدا مع إثارتها للخلافات السياسية بين البلدان.
لندن - أعلنت سوريا أنها صدرت كميات كبيرة من الرمال إلى لبنان منذ بداية العام الحالي.
وكان فرع المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في حمص قد أعلن الأربعاء أن الشركة صدرت 15 ألف طن إلى لبنان منذ مطلع العام الحالي وأنها أنتجت 600 ألف طن من الرمال الكوارتزية.
وتجارة الرمال بين سوريا ولبنان ليست سوى حلقة صغيرة ضمن سلسلة كبيرة من تجارة عالمية ضخمة ترتكز على هذه المادة التي تعد ثاني أكثر مادة مطلوبة ومستهلكة في العالم بعد الماء.
ويشهد استخراج الرمال والركام (الحصى) ارتفاعا كبيرا بسبب زيادة عدد سكان العالم وكثرتهم في المدن، وتسبب هذا الأمر في عواقب بيئية وسياسية واجتماعية خطيرة.
تعتبر الرمال عنصرا أساسيا في تشكيل العديد من المواد منها الخرسانة والزجاج والأسفلت. وتشكل عمود العالم الحديث الرئيسي. والرمال هي أكثر مادة خام يستهلكها العالم بعد الماء. ولا نبالغ في وصفنا لهذه المادة كأساس البناء في العالم الحديث، فدون الرمال لن نستطيع تشييد الطرق السريعة أو البنايات الشاهقة.
إزالة كميات كبيرة من الرمال يمكن أن تسرع تآكل ضفاف الأنهار والمناطق الساحلية وتقويض الجسور وتغيير مسار تدفق الأنهار وزيادة خطر الفيضانات
يمكن تصنيف الرمال كمورد وفير ومحدود على حد سواء. من الناحية العالمية، تعتبر وفيرة عند مقارنتها بالعديد من المواد الخام الأخرى. لكن محدوديتها تظهر عند مقارنة المعدل الذي نستخدمها به مع معدل تجددها الطبيعي الذي يتم عبر تعرض الطبقات الصخرية للرياح والمياه.
زادت موجة التصنيع وحدّة النمو السكاني والتحضر الطلب على استخراج الرمال. يصعب تحديد البيانات الدقيقة المتعلقة بهذا المجال مما يضاعف من صعوبة إدارة الموارد بشكل مستدام. ومع ذلك، تقدر الأمم المتحدة الاستخراج الكلي بحوالي 40 مليار طن سنويا، ما يعادل 18 كيلوغراما من الرمل كل يوم لكل فرد.
ونظريا، يمكن لهذه الكمية أن تبني جدارا من الرمال يحيط بالعالم ويصل ارتفاعه وعرضه إلى 27 مترا. وهنا تكمن المشكلة، فشهية البشر المتزايدة للرمال جعلت استخراجها واستخدامها وتجارتها مهمة في بيئتنا ومجتمعاتنا وحتى سياساتنا.
وتضاعفت سرعة وكمية استخراج الرمال مع تطور الأنظمة الميكانيكية الحديثة في العقود الماضية.
ففي حين يستخرج البشر الرمال يدويا بكميات محدودة، يمكن للآلات الحديثة استخراج 100 ألف طن من الرمال البحرية يوميا.
كميات أكبر مشكلات أكثر
يمكن أن يتسبب استخراج الرمال بهذه الكثافة في كوارث بيئية خطيرة وفتح الغرين مما سيؤثر على التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية المحلية. كما يمكن أن تسرّع إزالة كميات كبيرة من الرمال من تآكل ضفاف الأنهار والمناطق الساحلية، وتقويض الجسور، وتغيير مسار تدفق الأنهار، وزيادة خطر الفيضانات.
من المحتمل أن تزيد هذه المخاطر في المناطق التي تغيب فيها القيود المحلية، أو عندما لا تنفذ، أو عندما يساء فهم العوامل البيئية والجيولوجية والهيدرولوجية لموقع الاستخراج أو تجاهلها.
في معظم البلدان، تتولى التشريعات الوطنية للتعدين وحماية البيئة إدارة تعدين الرمال من خلال سلطتها التنظيمية المحلية. كثيرا ما تصاحب التشريعات البيئية بمبادئ توجيهية لتحسين الاستدامة.
ويعني هذا وجود البعض من الوحدات الإدارية الصغيرة المسؤولة عن إنفاذ القيود التي يمكن أن تعيق إدارة الموارد الشاملة.
تختلف درجة تنظيم استخراج الرمال من مكان إلى آخر. وغالبا ما تتسبب القوانين المتشددة في منطقة في نقل استخراج الرمال إلى مكان آخر.
وعلى سبيل المثال، حظرت السلطات الصينية تعدين الرمال في حوض نهر اليانغتسي سنة 2000، بعد أن تسببت العمليات في انهيار الجسور والضفاف النهرية. وأدى ذلك إلى توسيع استخراج الرمال في بحيرة بويانغ التي تقع في منطقة جيانغشي على بعد 300 ميل عن نهر اليانغتسي، والتي تعد أكبر مسطح مائي للمياه العذبة في الصين.
تعد بويانغ وجهة مهمة للملايين من الطيور المهاجرة بما في ذلك العديد من الأنواع المهددة بالانقراض. وتشير تقديرات دراسة أجريت في العام 2014 إلى استخراج حوالي 236 مليون متر مكعب من الرمال من بحيرة بويانغ كل سنة، ما يجعلها أكبر منجم رمال في العالم إذ يتجاوز أكبر ثلاثة مناجم مجتمعة في الولايات المتحدة.
وقد يتطلب، في المستقبل، ارتفاع مستوى سطح البحر والأمواج الناجمة عن العواصف الشديدة المرتبطة بتغير المناخ، بناء مئات الكيلومترات من الجدران البحرية الخرسانية للدفاع عن البنية التحتية الحيوية.
وفيما تبقى المتطلبات المادية الكلية للتكيف الفعال غير واضحة، يبدو تزايد الطلب على الرمال حتميا.
ويزيد الإقبال على الرمال من أجل “تغذية الشواطئ”، وهي ممارسة موجودة في هولندا والمملكة المتحدة وتهدف إلى حماية الشواطئ وصخورها التي تعتبر مهمة في السياحة والبيئة. توزع الرمال على المناطق الشاطئية كوسيلة فعالة، وإن كانت مؤقتة، لوقف التآكل الساحلي.
وأكد أحد الخبراء، الذين تحدثوا في مؤتمر عقد في الجمعية الجيولوجية البريطانية في يناير الماضي، احتمال ارتفاع الطلب على الرمال في تغذية الشواطئ على مستوى العالم من 50 مليون متر مكعب (حوالي 80 مليون طن) إلى 500 مليون متر مكعب بحلول سنة 2050 (حوالي 800 مليون طن).
أصبح استخراج الرمال قضية سياسية حساسة داخل حدود الدول وعبرها.
وبالنسبة للعديد من البلدان، أصبح استخراج الرمال ممارسة تنظمها المجموعات الإجرامية، إذ سجّلت 70 دولة بلاغات عن الاستخراج غير القانوني للرمال.
وفي المغرب، تشير البيانات إلى أن نصف الكمية المستخرجة سنويا، والتي تقدر بـ10 ملايين متر مكعب، تسجّل من عمليات تعدين الرمال الساحلية غير القانونية. أما في الهند، فقد سيطرت “مافيا الرمال” على المناجم الثرية بهذه المادة، وصدرت تقارير تؤكد وقوع حوادث قتل ذهب ضحيتها أفراد من المجتمع المحلي الذين اشتكوا من هذه الممارسات غير القانونية.
كما تسبب استخراج الرمال في تأجيج التوترات بين الدول. وقد فرضت كل من إندونيسيا وفيتنام وماليزيا قيودا أو حظرا مؤقتا على تصدير الرمال إلى سنغافورة، التي كانت أكبر مستورد للرمال في العالم على مدار العشرين عاما الماضية لاستصلاح أراضيها.
وتستورد معظم رمال سنغافورة من إندونيسيا، وقيل إن استخراجها تسبب في اختفاء 24 جزيرة رملية تابعة لها، مما زاد التوترات السياسية بين البلدين في ما يتعلق بحدودهما البحرية.
بعد حظر تصدير الرمال الماليزية في العام 1997، تجاوزت تكلفة الرمال الأجنبية في سنغافورة 200 دولار للمتر المربع بعد أن كانت في حدود 20 دولارا في سبعينات القرن الماضي.
واشتد النقص في الموارد الرملية عندما حظرت إندونيسيا تصدير الرمال إلى سنغافورة في عام 2007، مما أجبرها على اللجوء إلى بلدان أخرى لتغطية حاجياتها.
ضريبة النمو الاقتصادي
كان النمو الاقتصادي الملحوظ في الصين الدافع الأكبر من الزيادة في الطلب على الرمال. وتنتج الصين اليوم كميات أكبر من الأسمنت والخرسانة، وتستخدم بالتالي نسبة رمال أكبر من دول العالم مجتمعة.
ومنذ العام 2003، تجاوز إنتاج الخرسانة في الصين كل ثلاث سنوات ما أنتجته الولايات المتحدة في القرن العشرين بأكمله. كما دخلت العديد من الدول الأخرى، مثل الهند وإندونيسيا، فترة من الزيادة في استهلاكها للمادة.
تستخدم الرمال في مجال رئيسي آخر، وهو استصلاح الأراضي البحرية وتطوير الموانئ. تقفز إلى أذهاننا المشاريع الجذابة مثل نخلة الجميرة في دبي أو تطوير جزر العالم الاصطناعية بين برج العرب و ميناء راشد، لكن مشاريع استصلاح الأراضي الكبرى في جميع أنحاء العالم استخدمت نسبة كبيرة من الرمال تصل إلى مئات الملايين من الأطنان.
فسنغافورة زادت من مساحة أراضيها بنسبة 20 بالمئة منذ منتصف ستينات القرن الماضي باستخدام كميات كبيرة من الرمال البحرية الإندونيسية والماليزية.
كما تقع مناطق واسعة من هونغ كونغ، بما في ذلك مطارها الدولي، على أراض مستصلحة.
يحرك البشر الرواسب ثلاث مرات أكثر من كل الأنهار السائلة والجليدية في العالم سنويا.
ويمثل استخراج الرمال مظهرا على دخولنا ما يسميه الكثير من العلماء حقبة “الأنثروبوسين”، وهي عبارة عن عصر جيولوجي جديد يمثّل فيه النشاط البشري المحرك الرئيسي للتغيير البيئي على كوكبنا. ويمكن أن
يحمل “عصر الإنسان” مشاكلات تهدد سلامة واستقرار المجتمعات البشرية في المستقبل القريب. لكن عددا من العلماء اعتبروا أن هذا العصر بدأ فعليا منذ الثورة الزراعية عندما بدأ البشر في الزراعة وتدجين الحيوانات.
يؤثر النشاط البشري على توفر الرمال عبر أكثر من طريقة، حيث يعرقل سد الأنهار على نطاق واسع التدفق الطبيعي للرواسب الرملية التي يمكن أن تترسب في مناطق دلتا النهر وفي المناطق الساحلية.
وأشار تقرير علمي، نشر في فبراير الماضي، إلى أن ذوبان الطبقة الجليدية الناجم عن تغير المناخ في غرينلاند بدأ في نقل المزيد من الرمال إلى المناطق الساحلية حول الجزيرة، مما قد يوفر سلعة تصدير قيمة للمنطقة التي تواجه اضطرابات كبيرة نتيجة للاحتباس الحراري.
تعتبر الرمال مجتمعة مادة ضخمة وثقيلة. ورغم عدم تكلفة استخراجها وبساطة معالجتها فإن تكلفة نقلها مكلفة جدا. وبدلا من وجود سوق عالمية واحدة للرمال، تنقسم تجارتها بين العديد من الأسواق الوطنية وشبه الوطنية الأصغر حجما، والتي تحمل كل منها طرق عمل وتحديات عرض وطلب خاصة بها.
كما يبقى تداول الرمال على المستوى الدولي أقل من السلع الأخرى. ولا تمر أكثر من 5 بالمئة من تجارة الرمال عبر الحدود الدولية إذ تنظم غالبية التجارة عبر مسافات قصيرة مثل الحدود الكندية-الأميركية.
ورغم ذلك، تقطع تجارة الرمال الدولية أحيانا مسافات أطول. فعلى سبيل المثال، استهلكت دبي كمية مهمة من رواسبها من الرمال البحرية لإنشاء مشاريع البناء الضخمة حتى أنها بدأت في استيراد رمال البناء من أستراليا.
بلغت قيمة الرمال في التجارة الدولية 4.5 مليار دولار في العام 2017، ويتواصل النمو بمعدل 5.5 بالمئة كل سنة.
تقدر البيانات الصناعية العالمية أن إجمالي الطلب السنوي على الرمال ومشتقاتها سيرتفع إلى 60 مليار طن بحلول سنة 2030. وسيحمل هذا آثارا كبيرة على تجارة الموارد في نقلها وأمنها.
يزيد النمو السكاني والتوسع العمراني والتنمية من الحاجة إلى الإسكان وتوسيع البنية التحتية مثل الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس والمطارات والسدود. بذلك، سترتفع الحاجة إلى الحصول على كميات هائلة من الرمال، لكن استخراجها قد يسرّع مجموعة من التحديات البيئية والاجتماعية والسياسية الخطيرة.
تحدي تقليل الطلب
يمكن إدارة الموارد الرملية بطريق أكثر استدامة تحقق نتائج إيجابية سريعة، إذ يقدم برنامج الأمم المتحدة للبيئة لسنة 2019 البعض من الأفكار العملية في هذا السياق.
تكمن الخطوة الأولى في فهم تحدي استدامة الرمال، من خلال طرح أسئلة حول: كم تبلغ كمية الرمال التي سنحتاجها في المستقبل؟ من أين سنستخرجها؟ كيف ستتطور التدفقات التجارية المستقبلية للرمال؟ ما هي التكاليف الحقيقية لاستخدام الرمال غير المستدامة؟ وماهي الآليات التي يمكن أن تساعد في تحويل هذا القطاع نحو الاستدامة؟
أما الخطوة الثانية، فتكمن في تشجيع تقليل الطلب على الرمال، وإيجاد بدائل لها، وضمان استخراجها بطرق مسؤولة ومستدامة.
ويمكن خفض الطلب على الرمال من خلال تحسين تخطيط استخدام الأراضي، وتجنب التصاميم الزائدة وغير الضرورية، واعتماد نهج بيئي في البنية التحتية، واستخدام مواد بديلة كلما أمكن ذلك، والعمل على إطالة عمر المباني الحالية. كما يمكن أن تستبدل المواد التي يمكن إعادة تدويرها، مثل الخرسانة المهدمة والرماد الناتج عن حرق النفايات، الرمال. وتعتمد عدد من البلدان بعض أشكال استبدال الرمال.
كما يمكن إدخال بعض المعايير والممارسات التي تساعد في التحكم في تعدين الرمال لتخفيف آثارها البيئية والاجتماعية السلبية.
وتشمل الخطوة الثالثة خلق روابط أمتن بين المنتجين والمستهلكين والجهات المنظمة لتحسين جمع البيانات والبدء في تبني أنواع الحلول المذكورة.
وتستحق هذه القضية مكانة عالية في جداول الأعمال السياسية العالمية، إذ يبقى الجزء الأكبر من تحدي ضمان الاستدامة في هذا القطاع هو انتشار الحلول في جميع أنحاء العالم.
وتعتبر سلاسل إمدادات الرمال معقدة وغير واضحة في الكثير من الأحيان. وتتطلب معالجة مثل هذا القطاع، المقسّم، نهجا متعدد القطاعات حتى يتمكن العالم من وضع خطة توافق بين الحاجيات المحلية والممارسات، ويمكن تطبيقها تجاريا. في نهاية المطاف، أصبح استخراج الرمال وتجارتها قائمين على مؤسسة ذات نطاق واسع عابر للحدود. ويتطلب تنظيمهما جهودا عالمية ومحلية مبتكرة.
وطورت شركة ألمانية تقنية لجعل الرمال الناعمة صالحة للاستخدام في الخرسانة من خلال التكثيف في حبيبات أكبر، باستخدام تكنولوجيا وخلاطات متطورة. وقال المدير الفني للشركة هلموت روزن لوشر إن “حاجة دول الشرق الأوسط إلى هذه التقنية هائلة”، مشيرا إلى إبرام صفقات مع مصر والإمارات، وتلقي طلبات من الأردن والسعودية والكويت للحصول على هذه التقنية.

