آباء يزرعون في أبنائهم بذور العدوانية دون وعي بمخاطرها

لا يتقن الكثير من الآباء والأمهات كيفية التعامل مع أطفالهم عندما يتعلق الأمر بالعنف وتجنيبهم تأثيراته. بعضهم يجهل الطريقة المناسبة لحماية صغاره خصوصا عندما يتعلق الأمر بوضع عام مثل الحرب والنزاعات المسلحة، وهو ما أقر به الكثير من الآباء الليبيين الذين أكدوا أن أجواء القتال والعنف والانقطاع عن الدراسة جعلت أبناءهم يعانون من اضطرابات نفسية أبرزها اكتسابهم لميول عدوانية ما جعلهم يخشون على مستقبلهم.
طرابلس - كانوا صغارا، بعضهم لم يبلغ الثامنة حين دقت طبول الحرب في ليبيا عام 2011، اليوم هم مراهقون وشباب لديهم طفولة مضطربة بسبب ما مرت به بلادهم. بعض الأسر وجدت حلولا لإبعاد أبنائها عن أجواء النزاعات المسلحة وسدت أمامهم طريق الانخراط في العنف، وعائلات أخرى لم تجد حلولا وهي إلى اليوم تعاني من تداعيات الحرب النفسية على أبنائها وانخراط المراهقين الذين لم تستطع السيطرة عليهم فيها، نظرا لصغر أعمارهم واندفاعهم المرتبط بالمرحلة العمرية التي يمرون بها.
تقول إحدى معلمات الصف الأول ابتدائي في منطقة حي الأندلس بطرابلس، بنبرة اندهاش، “في وقت الفسحة فتحت دردشة مع التلاميذ بعد انتهاء الدرس، لم أصدق حين سمعتهم يرددون أسماء قادة المعارك من كل أطراف الصراع الليبي ويشجعون بعضهم ويتقمصون شخصياتهم”.
وتضيف المعلمة التي رفضت ذكر اسمها “بدا في أعينهم شغف بالحرب مع إعلان حبهم وولائهم لأحد الأطراف المتنازعة، أنا متأكدة أنهم يرددون ما سمعوه من آبائهم في البيوت، دون فهم لما يجري”.
بدا التلاميذ كغيرهم من الأطفال الليبيين وكأنهم فرحون بلعبة جديدة مبهرة لم يعرفوا عنها شيئا مسبقا، وبحكم صغر أعمارهم فهم لا يدركون أبعاد الصراع الذي يعيشون وسطه. كما أن العديد من الآباء والأمهات يعيشون بدورهم أوضاعا نفسية متوترة ومضطربة لم تتح لهم فرصة التفكير وإيجاد حلول مناسبة لإبعاد أطفالهم عن دائرة العنف.
الأطفال عاشوا وضع الحرب والتحريض على كره الآخر، وصار المجرمون قدوة لهم.. ولم يعرفوا حتى من خلال ألعابهم غير صنوف القتال
في حين يجهل بعض أولياء الأمور خطورة الوضع على أطفالهم من الناحية المعنوية والنفسية لا المادية فقط، فيما يعرف آخرون خطورة هذه التأثيرات لكن تجاهلوها أو أنهم لم يعرفوا كيف يفصلون الصغار عن أجواء النزاعات، بل يذهب كثير من الآباء للحديث مع أطفاله في تفاصيلها ويقنعه بتأييد طرف معين أو يتحدث عن ذلك أمام الطفل وبشكل غير مباشر يتأثر الأخير.
وبعد ثماني سنوات من الحرب كان الزجّ بالمراهقين فيها سهلا بسبب ظروف نشأتهم تحت وطأتها وعجز عائلاتهم عن النأي بهم عنها. ففي شهر إبريل الماضي، وقبل أن تغلق المدارس خلال شهر رمضان الذي وافق أغلب شهر مايو وأول يونيو، وبعد إيقاف الدراسة بضواحي طرابلس الجنوبية منذ بدء المعارك، أعلنت وزارة التعليم بحكومة الوفاق إيقافها في عموم البلاد لأكثر من شهر.
وفي تلك الفترة، تم استغلال بعض المدارس كمراكز إيواء للنازحين ووجد الكثير من التلاميذ أنفسهم مع والديهم داخل فصول دراسية، في مدراس سيئة المرافق، كحال أغلبها في ليبيا. واضطر بعضهم للعمل من أجل المساعدة في إعالة الأسرة.
وبعد إعلان عودة الدراسة، لم تستطع بعض المدارس استقبال التلاميذ بسبب وجود نازحين داخلها، ما أربك مواعيد الدراسة والامتحانات. ويقول شعبان أحمد وهو مدير مدرسة ابتدائية بطرابلس “مزاج الأطفال أصبح خليطا من العدوانية واللامبالاة… نشاهدهم يتشاجرون بعنف، وحين نتدخل كإدارة ونسألهم عن السبب، يقولون ‘كنا فقط نمزح'”. ويلاحظ المدير أن الجيد في الأمر هو “عدم وجود العنف بين البنات”.
وتؤكد الناشطة والمهتمة بشؤون الطفل امباركة عدالة “أن أي تأثير على ظروف معيشة وتعليم الطفل ينعكس على مستقبله، وما نزرعه فيه اليوم سنحصده مضاعفا في الغد، ولهذا، يجب ألا نستهين بعقول الأطفال، فهي تخزن كل شيء”.
وتتابع موضحة “الكثير من الآباء يتحدثون عن فظائع الحرب أمام أبنائهم ويشاهدون معهم أخبارها على التلفاز وفي مواقع التواصل الاجتماعي التي تنقل أحيانا صور العنف بأنواعه. للأسف، لا يعي الكثير من الكبار الآثار السلبية للحرب على الأطفال، حتى ألعابهم باتت عبارة عن مسدسات وقنابل بلاستيكية، وحين يكبرون قليلا، ومع أول هاتف ذكي قد يأتي كهدية أو إعارة من الوالدين أو الإخوة الكبار، يدخل الطفل مجال الألعاب القتالية التي تؤجج الثقافة العدوانية والشغف والمعرفة بشؤون الحرب والقتال”.
وتستنكر عدالة هذا الواقع، وتقول موضحة “نريد أطفالا يشعرون وينعمون بالسلام ولا يحملون في قلوبهم حقدا على أحد، وأدعو كل المنظمات المعنية لأن تسخر إمكانياتها لتدارك ما يمكن تداركه، فالأمر خطير، لقد تحول بعض أطفالنا إلى قنابل موقوتة”.
ومن جانبه يتحدث أحد سكان طرابلس قائلا “ابني ذو الثلاثة عشر عاما يحدد أنواع الأسلحة التي نسمع أصواتها عندما تبدأ الاشتباكات، والغريب أنه يصرح بمعرفته بها في لهجة افتخار، ويقول معتدا بهذه المعارف ‘لقد كبرت يا أبي'”. وأبدى الأب خوفا واضحا على مستقبل ابنه، فليس أخطر من أن يظن الطفل أن معرفته بصنوف القتل والقتال مقياس للرشد والثقافة الجيدة والمعرفة المفيدة.
ويبدو أن الشعور بالخوف الذي تم رصده بشكل واضح، يتم توريثه دون دراية للأطفال. ويؤكد رب أسرة “لقد عشنا في السابق سنين من الأمن والأمان، مع كل ما كان يشوبه البلاد من مشكلات، ولكن أبناؤنا الصغار لم يجربوا الشعور بالأمن، على الأقل تصرفاتنا لم تشعرهم بذلك، لأننا لم نعد نشعر به اليوم، وفاقد الشيء لا يعطيه، هم يظنون أن الحرب وانعدام الأمن هما حال ليبيا منذ بدء الخليقة”.
ويلاحظ المتحدث أنه في السنوات الثماني الأخيرة، تربى وعاش الأطفال الليبيون في وضع الحرب والفقر والتحريض على كره الآخر، بل وتكفيره أحيانا… وصار المقاتلون والكثير من المجرمين قدوة لهم .. ولم يعرفوا حتى من خلال أغلب ألعابهم غير صنوف القتال.
ويشير إلى أن أغلب الأطفال عانوا مع أهاليهم من مشكلات مركّبة، كغلاء الأسعار وانقطاع الكهرباء والمياه والوقود وقلّة النوم والخوف.. وحتى المدارس أغلقت في وجوههم كتلاميذ، واستقبلتهم كنازحين.. ألوان كثيرة كلها قاتمة أفرزتها هذه الفترة واصطبغت بها حياة ومستقبل الأطفال والمراهقين في ليبيا.