الاحتجاجات السودانية تخفي صراعا بين جيلين

التداخل الثقافي والاجتماعي والديني أورث سلطة أبوية يرفضها شباب اليوم في السودان وفجوة في العلاقة بين جيل الشباب والجيل الأكبر سنا.
الأحد 2019/06/23
التغيير قادم

خلف مطالب الشباب الاقتصادية والسياسية في الاحتجاجات الشعبية التي ما زالت مشتعلة في السودان، يكمن صراع كبير بين جيل اعتاد السيطرة والمسك بزمام الأمور وعدم الثقة بالشباب، وجيل جديد يعاصر التقنية والتطور العالمي في كل المجالات ويحاول إثبات جدارته وقدرته على التغيير وصناعة مستقبل أفضل.

الخرطوم - “عام 2019 سيكون عام الشباب بامتياز، والدولة ستنفذ فيه مشروعات طموحة لخلق مزيد من الاستقرار والتميز للشباب السوداني في شتى المجالات”، هذا الإعلان الذي أطلقه الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، مطلع العام الحالي، جاء متأخرا جدا ليكلف البشير منصبه بعد ثلاثين عاما من تجاهل رغبات الشباب ومتطلباته، إضافة إلى المشكلات الأخرى التي تعم البلاد.

لا يمكن اختزال مشكلات الشباب في المجتمع السوداني بالطموحات السياسية والاحتجاج على القمع، حيث يظهر بوضوح أن هناك فجوة في العلاقة بين جيل الشباب والجيل الأكبر سنا. وهذه الفجوة تشمل شتى المجالات الفكرية، والثقافية، والاجتماعية والسياسية.

وحين أعرب الرئيس السوداني عن تفهمه لمشكلات الشباب، مُوجهًا بفتح مسارات لاستيعاب طاقات الشباب، والانفتاح على المكونات الشبابية ضرورة، لم يدرك مقدار انعدام الثقة لدى جيل اليوم بالطبقة السياسية التي يهيمن عليها كبار السن، حيث تمتع جيل الكبار في السودان بحياةٍ مستقرة شغلوا فيها وظائف ثابتة، وعاصروا فترات ازدهرت فيها الخدمة المدنية والقطاع العام، بينما يعايش شباب الجيل الحالي أوضاعا غاية في السوء؛ من تدهور في الاقتصاد والتضخم، وارتفاع في نسب البطالة.

ويشير تقرير الأمم المتحدة الأخير للسكان إلى أن هناك حوالي 25 مليون سوداني في الفئة العمرية ما بين 0-24 سنة في بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 43 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يستمر هذا العدد في الارتفاع خلال السنوات القادمة.

ويعتقد أغلب الشباب أن هناك حالة تسيطر على قطاعات واسعة جدا من السودانيين، وهي أشبه ما يكون بوهم التفوق العمري، ما يجعلهم ينظرون إلى الأجيال الجديدة نظرة استعلاء.

سلطة كبار السن راسخة في السودان، ومنها استمد نظام البشير سابقا، والمجلس العسكري اليوم، اقتناعه بأنه يجب أن يبقى الممسك بزمام الأمور

كما أن هناك استهانة بإمكانيات الشباب وطاقاتهم وما يمكن أن يحققوه على أي صعيد، وهذا ما أعطى دافعا أكبر للشباب من أجل الاستمرار في الاحتجاجات وإثبات الوجود والقدرة على التغيير. ويسود العلاقة بين الأجيال السودانية في بعض الأحيان نوع من العناد، نظرا إلى تداخل النواحي الثقافية والاجتماعية مع القيم الدينية، الأمر الذي رسخ سلطة كبار السن وأفكارهم وقناعاتهم التقليدية القديمة على الشباب، وهو أيضا ما غذى روح التمرد لدى الشباب ورغبته في التخلص من هذه السلطة.

ومع تطور التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتوسّع حدود المعرفة وفرص الاحتكاك والاطلاع على ثقافة المجتمعات الأخرى، اتضح حجم الاختلاف في المفاهيم والقيم الاجتماعية وفي طبيعة العادات والتقاليد السائدة التي يحاول الشباب تجاوزها بأدواته، كما ازدادت مساحة الاختلاف بينهما.

وترى الشابة مها عمر أن الصراع بين الأجيال في السودان قائم على خلاف في الرؤية والتصورات، إذ لم يعد الجيل الجديد مقتنعا بأفكار عفا عليها الزمن ولم تعد تلائم العصر، ولا تتفق مع المتغيرات الجديدة والمستجدات التي تطرأ على حياة الناس.

وأضافت في صفحتها على فيسبوك، أن سلطة كبار السن راسخة في السودان، ومنها استمد نظام البشير سابقا، والمجلس العسكري اليوم، اقتناعه بأنه يجب أن يبقى الممسك بزمام الأمور وبأحقيته الكاملة في السلطة، والإصرار على عدم إعطاء الشباب الثقة أو الإيمان بقدراته.

أسلوب جديد في التعبير

ومن اللافت أن الشباب السوداني فرض أسلوبه في التعبير عن رأيه، وتنوعت أساليبه الاحتجاجية من التظاهرات التقليدية إلى أشكال أخرى مثل الوقفات الاحتجاجية التي نظّمها مهنيون من كوادر طبية ومهندسين ومعلمين وموظفي مصارف وإعلاميين وعمال شركات في القطاع الخاص.

وانتقلت الانتفاضة وشعاراتها إلى المناسبات الخاصة وقاعات الأفراح، إذ تحولت العديد من حفلات الزفاف إلى مظاهرات ردد فيها المدعوون عبارات مثل “تسقط بس” و”حرية سلام وعدالة.. الثورة خيار الشعب”، وحتى أولئك الذين لم يتمكنوا من المشاركة في المظاهرات، وجدوا طريقة للتضامن مع الحراك السلمي بطريقتهم الخاصة، خاصة الفتيات اللاتي منعتهن عائلاتهن من الخروج إلى الشوارع، فلجأن إلى كتابة منشورات أعلن فيها تضامنهن مع المعتقلين والثوار من داخل البيت ونشرنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ثورة جيل
ثورة جيل

ويعاني السودان من ضعف البنية التحتية والخدمات وتقلص فرص العمل والتشغيل، ما أدى إلى تفاقم مخاوف الشباب من إمكانية إيجاد مستقبل أفضل له. فالمشكلات الاقتصادية التي هزت البلاد استمرت في التفاقم لأكثر من ثلاثة أعوام. كما أن الحكومة أظهرت فشلا ذريعا في إدارة بعض السلع والخدمات.

ويعود عجز الدولة في الإدارة إلى أنها اختزلت مفهومها في وظائف إدارية محدودة؛ الأمر الذي جعل من الشعب -وبالأخص الشباب- معتمدا على الدولة في الكثير من مناحي الحياة. فالجيل الجديد ورث الاعتماد على الدولة في توفير السلع الرخيصة والوظائف وفرص التعليم.

المشاركة السياسية

ويؤكد اختصاصيو الاجتماع أنه كلما زاد اعتماد الشباب على الدولة، زادت احتمالية احتجاجه عليها حينما تقصّر في مسؤوليتها المفترضة تجاهه.

ويقول صبري محمد خليل أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم في إحدى مقالاته، إن السلبية والانعزال عن حركة المجتمع  جزء من العديد من المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية التي مصدرها تخلف النمو الحضاري في المجتمع السوداني.

ويضيف أن تحقيق مشاركة الشباب في الحياة العامة لا يمكن أن يتم دون إلغاء هذه المظاهر السلوكية والفكرية السلبية بإلغاء سببها (تخلف النمو الحضاري)، وتأكيد وتطوير القيم الحضارية للمجتمع السوداني ومنها قيمة المشاركة.

وأشار إلى أن “العمل السياسي هو المظهر الأساسي لمشاركة الشباب بشكل مباشر في الحياة العامة، غير أن هناك العديد من المشكلات التي تحول دون مشاركة الشباب طبقا لهذا البعد، أهم هذه المشكلات مشكلة التخلف الديمقراطي التي تمثل البعد السياسي لمشكلة التخلف الحضاري، وتتمثل في: انعدام أو ضعف التقاليد الديمقراطية، وحل هذه المشكلة يكون بمساهمة الجميع في حل مشكلة التخلف الديمقراطي عبر تشجيع الممارسة الديمقراطية على أوسع نطاق. وأن تكون وسائل ممارسة الديمقراطية إحدى الخدمات التي تقدمها الدولة”.

نحو فرص أفضل للحياة
نحو فرص أفضل للحياة

غير أن آراء الشباب تركز بالدرجة الأولى على الوضع الاقتصادي، ففئة الشباب هي الأكثر تضررا من ظروف السودان الصعبة. ويقول محمد سليمان إن الظروف اضطرته إلى العمل سائق “توك توك” لتلبية احتياجات أسرته في ظل وضع اقتصادي عصيب.

ويتشبث سليمان بالأمل، وتغيير الوضع الاقتصادي هو دافعه الأساسي للمشاركة في الاحتجاجات، ويرفع شعار “حرية عدالة سلام”، لكنه عاطل عن العمل منذ عامين، ويحلم بأن يسهم التغيير المنتظر في تحقيق ما يصبو إليه.

الكفاءات لا مكان لها

حين تخرج محمد من الجامعة بدأ رحلة طويلة بحثا عن العمل، لكن الطريق لم ينته بعد، ويقول إن “الاحتجاجات الحالية هي المخرج الوحيد. ترعرعت في كنف هذا النظام، وعلى غرار كثيرين من أبناء جيلي، ما زلت عاطلا عن العمل، معيار التوظيف أصبح الولاء… الكفاءات لا مكان لها مع هذا النظام”.

ويضيف “أفكار ملهمة من شباب واع عمد عبر الشارع ووسائل التواصل إلى ترميم ما أفسده النظام الحاكم على مدار عقود”.

وكان وزير التعاون الدولي السوداني السابق إدريس سليمان قد صرح بأن نسبة البطالة في السودان بلغت العام الماضي 20 في المئة (5 ملايين شاب عاطلون عن العمل) ونسبة الفقر 36 في المئة، أما نسبة التضخم فقد تجاوزت بنهاية العام الماضي 70 في المئة، حسب الجهاز المركزي للإحصاء.

ويأمل الشباب السوداني أن تقود الاحتجاجات إلى تغيير سياسي يمنحه فرصا لحياة أفضل في المستقبل، لذلك انضم الكثيرون إلى تجمع المهنيين السودانيين، ويحذرون من تزايد الشائعات والأخبار الكاذبة مؤخرا بهدف إنهاء حراكهم.

ويطرح الشباب مطالبه على مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال لافتات يحملها في ميدان الاعتصام بالقيادة العامة.

ويكرر الشبان والشابات في السودان أن ثورتهم هي “ثورة جيل وأنهم أكثر من يطالبون بالتغيير”، و“القيادة فن لا تسطرها رسالة الدكتوراه” على حد تعبير إحدى الناشطات في إشارة إلى الجيل الأكبر سنا من حملة الدكتوراه.

19