أزمة السودان تذكّر مصر بمطالب أهالي النوبة المؤجّلة

تحمل استجابة الحكومة لمطالب أهالي النوبة بتمكينهم من تنمية منطقتهم وتعويضهم عن أراضيهم التي خرجوا منها منذ ستينات القرن الماضي، ومنحهم الأولوية المطلقة في استثمار الأراضي المعروضة للبيع، أبعادا سياسية وأمنية يربطها المتابعون بما يجري في السودان، الجارة الجنوبية لمصر، حيث تربط أهالي النوبة في مصر علاقات بالنوبة في السودان.
القاهرة - استقبل سكان النوبة، أقصى جنوب مصر، قرار الحكومة المصرية الأربعاء الماضي، بصرف تعويضات للأهالي عن الأضرار التي نجمت عن عملية بناء السد العالي وخزان أسوان، بترحاب حذر. مردّ هذا الحذر أنه نادرا ما تستجيب الحكومة لمطالبهم وتقر بحقوقهم وتعوّضهم عن الخسائر التي تكبدوها من وراء تهجيرهم من ديارهم وأراضيهم.
وعلى مدار التاريخ، تعوّد أهالي النوبة، الذين يشكون من التهميش، على أن أي قرار جديد يصب في صالحهم يحمل بين طيّاته هدفا، لكنهم لا يعترضون، رغم ما قد يخسرونه، بل يبدون تأييدا طالما كان الهدف أمن مصر، وغالبا ما يستحضرون كمثال للتضحيات ما قدموه لبناء السد العالي، من دعم مادي ومعنوي، وكيف تخلوا عن أرضهم وتم تهجيرهم من أجل هذا المشروع القومي، الذي يدفعون ثمنه إلى اليوم.
وفي مناسبات عديدة، كان هذا الملف محل خلاف بين الحكومة وأهالي النوبة، يصعد على السطح تارة ويختفي تارة أخرى، حسب الظرف المحيط محليا وإقليميا. وعاد مؤخرا إلى الظهور على خلفية القرار الأخير بصرف التعويضات ضمن سياسة تأمين جميع الحدود المصرية في الشرق والغرب والجنوب، فضلا عن تأمين الحدود الشمالية المطلة على البحر المتوسط بأسطول بحري كبير ومتنوع بواسطة العديد من السفن والفرقاطات.
ليست هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها الحكومة عن التطوير والتعويض لسكان النوبة، فقد سبق وقدمت وعودا مختلفة، لكن الأهمية هنا تكمن في التوقيت والسياقات، فأحد المنغصات الأمنية تأتي من المناطق الحدودية الشاسعة، وقد بدأ الانتباه إلى ذلك في سيناء من ناحية الشرق عقب الانفلات الذي شهدته بعد سقوط نظام الإخوان في مصر عام 2013. وتم العمل على تطويق الفوضى القادمة من الغرب، بعد انتشار جماعات إرهابية في ليبيا وعبورها الحدود، والآن جاءت فكرة النوبة في الجنوب خوفا من تدهور الأوضاع في الخرطوم، لأن منطقة النوبة السودانية قريبة من النوبة المصرية.
يهدف تذكر الحكومة لمطالب النوبيين القديمة إلى غلق ثغرة خطيرة كانت تشكل خطرا مكتوما للأمن القومي، لأن استمرار الصدام يفتح الباب لتوترات على الحدود الجنوبية.
ويخشى الأهالي أن تكون قرارات الحكومة “مسكنات سياسية”، وهي الطريقة التي كانت تتعامل بها حكومات سابقة مع مطالب سكان النوبة. لكن مصدرا حكوميا، قال لـ”العرب”، إن “هناك تكليفات رئاسية واضحة بالانتهاء من ملف تعويضات أهالي النوبة في وقت قياسي، وإزالة كل شعور بالتهميش أو التمييز أو الإحساس بأنهم أقلية دون حقوق”.
اقتصار أزمة النوبة على صرف تعويضات توصيف خاطئ للمشكلة، لأن الأهالي يطالبون بوضع خطة شاملة تتضمن استصلاح أراض وإقامة مشروعات تنموية وسكنية ومصانع
وفي هذا الصدد وافق مجلس الوزراء على أن تتملك كل عائلة الأرض التي قامت بزراعتها أو البناء عليها عقب التهجير، وإذا لم تكن لدى الأسرة أرض، فإن محافظة أسوان التابعة لها منطقة النوبة تقوم بتوفير قطعة أرض تعادل نفس المساحة التي تم استقطاعها وقت بناء السد العالي أو خزان أسوان، مع تقديم مستندات الملكية السابقة.
وكان لافتا مستوى “التفهم” الحكومي لمطالب أهالي النوبة حيث تم وضع خيارات لكل أسرة لتختار طريقة التعويض المناسب لها، إما بالحصول عليه ماديا، وإما من خلال أرض زراعية، مع تحديد الأماكن التي يرغب كل فرد في الحصول على تعويض بها، سواء داخل المحافظة أو في أي إقليم مصري آخر.
يعكس القرار الجديد تغيرا في موقف الحكومة من تملك السكان لأراضي المناطق الحدودية، وهي مسألة طالما اعتبرتها من الخطوط الحمراء التي لا يجوز التطرق إليها.
لكن، تكمن المعضلة في أن “الحكومة ترهن صرف التعويضات بتقديم وثائق تثبت أن الأسر كانت تمتلك أراض ومنازل في هذه المناطق قبل التهجير”، أي أن هناك عائلات مطالبة بمستندات تعود لأكثر من مئة عام مضت، وهو ما يثير الشكوك لدى بعض الأهالي حول جدية الحكومة في إنهاء الأزمة بشكل كلي.
يتمسك النوبيون بالتطبيق الحرفي للدستور الذي يلزم الدولة بصرف التعويضات لجميع المتضررين، ومشاركة أهالي المناطق الحدودية في وضع وتنفيذ خطط التنمية، على أن يكون لسكانها الأولوية في المشروعات، مع سرعة عودة أهالي النوبة إلى المناطق التي هجروا منها بدافع المصلحة العامة.
ورأى متابعون أن الحكومة أدركت خطورة التعاطي السلبي مع مطالب السكان في منطقة تمثل عمقا استراتيجيا، بعكس المكاسب الأمنية الكبيرة التي تجنيها من التقارب مع أهالي شمال سيناء في مواجهة التنظيمات الإرهابية، وسكان محافظة مطروح في دعم التأمين العسكري وحماية الحدود الغربية مع ليبيا.
وقال محمد صالح عدلان، رئيس النادي السياسي النوبي، إن قرار الحكومة بتعويض سكان النوبة خطوة جادة تهدف إلى التهدئة مع أهالي الجنوب باعتبارها منطقة حدودية شائكة، وقد تكون مصدر قلق وإزعاج وتوتر أمني يستغله المناوئون للدولة في ضرب عمقها.
وأضاف لـ”العرب” أن الحكومة تريد غلق ثغرة كانت تنفذ منها أطراف خارجية معادية، تستثمر قضية النوبيين لتحقيق أغراض سياسية من خلال تكرار الحديث عن التهميش والتمييز والأقليات مهضومة الحقوق، وهي اتهامات أصبحت جاهزة للحكومة.
يهدف تذكر الحكومة لمطالب النوبيين القديمة إلى غلق ثغرة خطيرة كانت تشكل خطرا مكتوما للوضع الامني
وقد اعتاد مهاجرون من أصول نوبية مصرية يعيشون خارج البلاد التصعيد ضد الحكومة، والحديث كل فترة عن ضياع حقوقهم، واستثمر البعض التقلبات السياسية في مصر بعد ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، للضغط على النظام وإحراجه دوليا، وطرح القضية كأنها تمثل تهميشا لحقوق الأقلية.
وتدرك القاهرة أن التوترات ستظل قائمة، طالما بقيت هناك بؤر توتر على الحدود، مهما كان الحضور الأمني قويا في هذه المناطق فلن تكون له قيمة كبيرة ما دامت العلاقة بين الحكومة والأهالي قائمة على العناد.
توقعت دوائر سياسية أن يكون المشير حسين طنطاوي، وزير الدفاع الأسبق وهو من أصول نوبية، وراء الضغط على الحكومة لإنهاء ملف تعويضات سكان النوبة، باعتبار أنه من الشخصيات العسكرية القريبة للغاية من الرئيس عبدالفتاح السيسي، حيث يعتبر مثلا أعلى له، ويجلس بجواره في المناسبات والفعاليات الرسمية، رغم خروجه من الخدمة عام 2013.
وتصاعدت الأزمة بين الحكومة وأهالي النوبة منذ عامين، على خلفية اعتصام كبير وتنظيم مسيرات متكررة، وتدخلت أجهزة الأمن لتفريقهم، ما أسفر عن سقوط مصابين من النوبيين واعتقال آخرين، بما ضاعف من الاحتقانات المكتومة.
قال تامر عبدالحميد، عضو ائتلاف عائدون إلى النوبة، إن غالبية الأزمات ناجمة عن غياب ثقة السكان في الحكومة وإمكانية توظيف الأمر سياسيا دون تطبيقه على الأرض، واللعب على وتر التجاهل السياسي والإعلامي لمطالب النوبيين.
وأوضح، لـ”العرب”، أن اقتصار أزمة النوبة على صرف تعويضات توصيف خاطئ للمشكلة، لأن الأهالي يطالبون بوضع خطة شاملة تتضمن استصلاح أراض وإقامة مشروعات تنموية وسكنية ومصانع، للتأكيد على أن الخطط الاستثمارية متساوية بين المحافظات، وإذا أرادت الحكومة بناء حائط صد منيع من أهالي النوبة عليها أن تخرس وتعاقب الأصوات التي تتهم النوبيين بالسعي دوما للانفصال.
وحرصت الحكومات المصرية في السنوات الأخيرة إلى الاستعانة بشخصيات نوبية بارزة، وإسناد مهام سياسية لها، انطلاقا من مبدأ المواطنة والمساواة الذي تسعى القاهرة إلى تنفيذه مع الأقباط والمرأة وسكان المناطق الحدودية والمهمشين عموما، بما يؤكد أن هناك خطة لإنهاء الملفات العالقة والشائكة والتي تمثل منغصا قويا للأمن المصري، وتستغلها التنظيمات المتشددة في مواجهاتها المحتدمة مع أجهزة الأمن.