حروب البلقان.. البذرة الأولى لتفريخ التطرف المسيحي

ارتبطت قضايا التطرف أو ما يسمى بـ”حروب الجهاد” طيلة عقود بالجماعات المسلحة التي أدت إلى خلق أجيال متعاقبة من الإرهابيين المسلمين، لكن في السنوات الأخيرة، وبعد أن تمّ تجاهل الملف أو تعمّد طمسه وإخفاء حقائقه، بدأت أهم وسائل الإعلام العالمية تسلّط الضوء شيئا فشيئا على إرهاب آخر مضاد، وهو الإرهاب اليميني الأبيض، الذي بات اليوم، مع تواصل صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، يهدد أمن القارة الأوروبية والعالم بأسره، خاصة عقب الهجوم الدامي على بلدة كرايست تشيرش في نيوزيلندا والذي نفذه متطرف مسيحي. ينذر تصاعد إرهاب الجماعات المسيحية بميلاد أجيال من المتطرفين، ما يستدعي وجوبا الوقوف عند أهم المحطات والمنعرجات الحاصلة، والتي كانت بمثابة نواة أولى لتفشي هذه النزعة التي ترفض الآخر وتقصيه خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسلمين.
زغرب - أدى انهماك الأنظمة السياسية الأوروبية والغربية بصفة عامة في توجيه التهم للآخر وتصوير الغرب على أنه أرض طاهرة من دنس الإرهاب والتطرف، إلى مباغتة العديد من البلدان بتصاعد خطابات التطرف والتعصّب التي تعتبر في جزء هام منها نتاجا للمضامين السياسية للأحزاب اليمينية المتطرفة وكذلك بمثابة الملـمح المهم عن فشل سياسات هذه البلدان في مقاومة كل جذور التطرف.
عمدت أوروبا ودول الغرب في معظمها وفق العديد من الخبراء، بوعي أو من غير وعي، إلى الاهتمام بإطناب في دراسة وتحليل دوافع ومظاهر الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الإسلامية المسلحة، لكنها تجاهلت الحديث بالتوازي مع ذلك عمّا تخفيه جماعات متطرفة تنطق باسم المسيح أو ما يسمى بالتطرف الأبيض.
حلّت حادثة نيوزيلندا الإرهابية التي نفّذها متطرف أبيض قيل إنه ينتمي إلى “جيش الظل” اليميني المتطرف، كما تصاعدت شعبية الأحزاب الشعبوية في القارة العجوز، فلم يجد ساسة الاتحاد الأوروبي، سوى إعادة النبش عن تاريخية هذه التيارات السياسية ونشأتها التي أدت إلى خلق خطابات عنصرية ومتطرفة.
ومثلما تم التطرق بإطناب إلى الممهدات الفكرية التي أغرقت العالم بإرهاب الجماعات الجهادية الإسلامية المسلحة كداعش أو تنظيم القاعدة، فإن للتطرف الأوروبي أصولا جعلته ينتشر كالوباء في أرجاء القارة وفي العالم، ومنها حروب البلقان التي كانت دون شك بمثابة مصنع لتفريخ المتطرفين.
نشأة التطرف الأوروبي
عند الحديث عن نشأة التطرف بصفة عامة تتراءى للمتابع، بصفة أولية أهم المراحل التاريخية لمختلف جذور الإرهاب، مثلما كان الغزو السوفييتي لأفغانستان وما تلاه من حرب أهلية بمثابة بذرة مؤثرة للتطرّف الإسلامي، وهكذا كانت حروب أخرى، من الشيشان إلى العراق، يتبين أيضا وجود صراع آخر حاسم شكّل مسار التطرّف العالمي والإرهاب المسيحي والذي يجري تجاهله، حيث نضج مُعظم اليمين المتطرّف العالمي بفعل صراعات البلقان في تسعينات القرن الماضي، ولاسيّما في حرب البوسنة.
هذه المحطات التاريخية الهامة والمفخخة، تعرض إليها تقرير أصدرته مجلة فورين بوليسي الأميركية، الذي أكّد أن حروب البلقان دفعت اليمين إلى أحضان التطرف، فلم يمنع المتشددون من تجاوز حدودهم الجغرافية.
ويشير الكاتبان الأميركي عظيم إبراهيم والبوسني حاكم كارسيتش عند بدء مقاربتهما إلى دور الغزو السوفييتي لأفغانستان والحرب الأهلية التي تلت ذلك في زرع بذور التطرف الإسلامي، مثلما فعلت الحروب الأخرى من الشيشان إلى العراق. مؤكّدا أن العالم لم ينتبه إلى صراع حاسم شكّل مسار التطرف العالمي والإرهاب، بتأكيده حقيقة ترعرع جزء مهم من التطرف اليميني المسحي الحالي في أحضان حروب البلقان.
لا يستحق الإرهاب المحسوب على المسلمين من هذه القصة تعريفا عميقا، فهو معروف، حيث انضم آلاف المتطوعين من الأجانب إلى الميليشيات المسلمة البوسنية. وجاء بعض المجندين الجدد من أوروبا الغربية، وقدم عدد من قدامى المحاربين في أفغانستان ضد الغزو السوفييتي في الثمانينات.
ولم تقتصر هذه التطورات على المتطرفين الإسلاميين، حيث التحق بالتوازي مع ذلك آلاف المتطوعين من جميع أنحاء أوروبا إلى جيش صرب البوسنة الأرثوذكسي والجيش الكرواتي البوسني الكاثوليكي. كما استقطب الجانب الكرواتي عددا من النازيين الجدد من جميع أنحاء القارة خلال تلك الفترة. وتحقق ذلك بسبب قرار حكومي وطني في العاصمة زغرب، دعا إلى إعادة وضع رموز دولة كرواتيا المستقلة في فترة الحرب العالمية الثانية، والتي كانت نظاما فاشيا خاضعا لألمانيا النازية.
عمدت أوروبا ودول الغرب إلى الاهتمام بدراسة إرهاب الجماعات الإسلامية، لكنها تجاهلت الحديث عمّا تخفيه جماعات مسيحية متطرفة
وقد تكرر بذلك سيناريو المتطوعين المسلمين عندما عاد قدماء المحاربين المسيحيين إلى بلدانهم الأصلية بعد الحرب، وكانوا متطرفين وجاهزين للمعارك الجديدة.
وأصبح بعض المحاربين القدامى وفق فورين بوليسي جوهر الميليشيات اليمينية الجديدة التي تحولت إلى قوى سياسية قوية بمرور الوقت. ويمكن ذكر حزب الفجر الذهبي في اليونان كمثال بارز على ذلك.
أثناء الحرب، شارك أعضاء الفجر الذهبي الأساسيين في مذبحة سريبرنيتسا التي خلّفت أكثر من 8 آلاف قتيل في صفوف البوسنيين المسلمين سنة 1995.
وكما هو الحال مع المتطوعين المسلمين، كانت استجابة الحكومات الأوروبية بطيئة حيث لم تدرك الخطر الذي شكله هؤلاء المحاربون المتطرفون على مجتمعاتهم الأصلية عند عودتهم من مناطق النزاع الأخرى.
أيّد الكثيرون باليونان في ذلك الوقت، بما في ذلك أفراد منتمون إلى الحكومة شاركوا اليونانيين في المذابح، وخاصة لأسسهم الدينية والأيديولوجية. كما انطبق الأمر نفسه في العديد من بلدان أوروبا الشرقية، وخاصة في أوكرانيا ورومانيا وروسيا، وفي بعض الدوائر بأوروبا الغربية.
تجاهل أوروبي
لم تبعث الحكومات الأوروبية أي برنامج للتخلص من تشدد المقاتلين العائدين وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم الرئيسية. ولم تكن الفكرة على جدول أعمالهم أصلا. ولم تكن هناك أي مساءلة قانونية عن الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الأشخاص أثناء تواجدهم خارج بلدانهم. ويمكن القول إن بعض المقاتلين كوفئوا بشهرة واسعة ومنصة سياسية للمستقبل.
وقد أنتج هذا الفشل نفس أشكال الإرهاب الإسلامي في شبكات التطرف الراديكالي على مستوى اليمين الأوروبي. وأصبحت قائمة الإرهابيين والدعاة الراديكاليين الوطنيين الذين خرجوا من الحرب البوسنية وأولئك الذين رأوا فيها مصدر إلهام لهم، واسعة. ويمكن الإشارة إلى بعض الشخصيات المعروفة مثل السويدي جاكي أركلوف، المنتمى سابقا إلى إحدى جماعات النازيين الجدد والذي قاتل لصالح الكرواتيين الكاثوليك، والنرويجي أندرز بريفيك المدان بقتل 77 شخصا خلال هجومين منفصلين في ما سمي بمذبحة أوسلو عام 2011، كأمثلة على هؤلاء المتطرفين.
وكان السويدي أركلوف من النازيين الجدد الذين انضموا إلى قوات الدفاع الكرواتية، والذين يؤكد ضحاياهم تعرضهم للتعذيب الوحشي في معسكرات الاعتقال التي يديرونها في الهرسك. وقد اعتقلته الحكومة البوسنية وأدانته بجرائم الحرب التي ارتكبها خلال فترة نشاطه في قوات الدفاع. ثم أطلق سراحه بعد عام فقط ضمن اتفاق يشمل تبادل المساجين، وعاد إلى السويد أين رأت المحكمة أنه بريء من الجرائم لعدم توفر الأدلة الكافية. وردّ على تساهل الدولة السويدية عبر تأسيس مجموعة من النازيين الجدد في السويد مع شخصين آخرين. وقبض عليهم بعد فترة قصيرة أين أُدينوا بقتل ضابطي شرطة سويديين سنة 1999.
لم يقاتل أندرس بهرنغ بريفيك في الحروب مثل أركلوف. وكان مراهقا في تلك الفترة، لكنه استوحى نظرته الأيديولوجية من المتطرفين الصرب الأرثوذكس. لكن نظرته تمثّل اليمين المتطرف الأوروبي على نطاق واسع.
كل هذا التغاضي الأوروبي عن الألغام أو القنابل الموقوتة الحاملة لتشدد ديني يميني مسيحي أفرزته حروب البلقان، يشي خاصة مع حصول بعض التطورات مؤخرا إلى أن العالم بات جاهزا لصراع الحضارات أو الأديان وأنه على فوهة بركان صراع الأصوليات المتطرفة وهذا وبالفعل ما أكدته حادثة نيوزيلندا الإرهابية.
يتكرر حسب “فورين بوليسي” الأميركية موضوع الحرب الأبدية بين الحضارات الأوروبية والإسلامية في تفكير المتشددين، ويتعمق مع انتشار السكان من ذوي الأعراق الشرق أوسطية الحاملين لما يعتبرونه إسلاما من القرون الوسطى المتخلفة، بين ما يسمونه “العرق الأوروبي الأبيض” الذي يمثل الثقافة الغربية والمسيحية والتنوير.
وتحمل فكرة الحرب المستمرة بين المسيحية والإسلام تاريخا طويلا في منطقة البلقان ومحيطها. لكن، تحمل فكرة الصراع بسبب التنافس الديموغرافي بين الأجناس إرثا صربيا.
لم تبعث الحكومات الأوروبية أي برنامج للتخلص من تشدد المقاتلين العائدين وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم الرئيسية. ولم تكن الفكرة على جدول أعمالهم أصلا
ويمكن ذكر التصريح الذي أدلى به رادوفان كاراديتش، الذي كان زعيم الصرب البوسنيين خلال الحرب البوسنية كمثال على هذه النقطة، حيث قال “لم يرغب المسلمون في تحويل البوسنة إلى كنفيدرالية أو إلى ثلاث ولايات للكروات والصرب والمسلمين. لقد أرادوا منطقة البوسنة والهرسك بأكملها لأنفسهم. يريد المسلمون البوسنيون الهيمنة، وذلك اعتمادا على معدل مواليدهم المرتفع. حتى أنهم أرادوا نقل بعض الأتراك من ألمانيا إلى البوسنة للمساعدة في بناء مجتمعهم الإسلامي. وبما أن استراتيجية هيمنتهم ستكون على حساب الصرب البوسنيين، فقد قاومناها عبر حماية قرانا منهم”.
رسّخ هذا التفكير مواقف الإبادة الجماعية بين الصرب على وجه الخصوص خلال حروب البلقان، وتطور لاحقا في مفهوم اليمين المتطرف الأوروبي والأميركي للاستبدال العظيم، وهو عبارة عن فكرة تدعي أن الهجرة الإسلامية تستبدل الثقافة والحضارة والعرق لدى الأوروبيين. ويبرر كل هذا أعمال الانتقام العنيفة.
وأبرز بريفيك علاقة البلقان باليمين عندما تطرق في بيانه إلى “سفاح البوسنة” كاراديتش، قائلا إنه “سيبقى في الذاكرة باعتباره صليبيا شريفا وبطل حرب أوروبيا لجهوده في تخليص صربيا من الإسلام”.
وقد اختار لغة ومصطلحات تردد صداها مع القومية الصربية في التسعينات والتطرف اليميني اليوم.
ومع ذلك، قد يكون الإرث الأكثر أهمية في حروب البلقان والبوسنة، والأهم من المقاتلين العائدين بأفكارهم المتشددة أو الخطاب المتطرف، هو تحطيم الوهم الأوروبي في فترة ما بعد الحرب، وقد رأى بعض حامليه أنهم ينتمون إلى مجتمع دولي متحضر يراقب العالم.
وكانت حروب البلقان، وخاصة تلك التي اندلعت في البوسنة والهرسك، من أوائل الصراعات التي نقلت أحداثها مباشرة على التلفزيون، بعد حرب الخليج الأولى مباشرة. وشاهد العالم مذابح وحشية حملت سمة الإبادة الجماعية الصريحة التي ارتكبت ضد المسلمين البوسنيين.
تطور مفهوم الاستبدال العظيم، وهو عبارة فكرة تدعي أن الهجرة الإسلامية تستبدل الثقافة والحضارة والعرق لدى الأوروبيين
وتمكّنت الميليشيات العشوائية التي تتمتع بدعم حكومي من إقامة معسكرات أين عذبت واغتصبت وقتلت وأحرقت تراثا دينيا وثقافيا أمام أعين “العالم الحر” الذي راقب هذه الممارسات والفظائع برعب وعجز. مرت خمس سنوات قبل أن تتدخل الولايات المتحدة والغرب ضد صربيا، واستغرق الأمر أكثر من عقد حتى يرى الآخرون وجوب تحقيق العدالة في محكمة دولية.
في الوقت نفسه، كانت الإبادة الجماعية المتلفزة عاملا لحشد المتطرفين من جميع المناطق. وخلص بعض المتابعين إلى إمكانية ارتكاب الجرائم دون عقاب، وأنه يجب سحق العدو قبل أن يسحقهم.
شكلت الحرب نقطة محورية في التاريخ الأوروبي. لم يفلت القتلة والفاشيون من العقاب فحسب، بل مُجّدوا على شاشات التلفزيون. مع تلك السابقة المحترقة في الذاكرة الجماعية لجيل، كانت عودة الفاشية الأوروبية مسألة وقت.
