عصمت داوستاشي فنان مصري يتقصى التراث بأصابع طفل

أعمال الفنان عصمت داوستاشي تتمحور دائما حول بيئته المحلية، بمعناها الجغرافي والتاريخي والبشري، بحاضرها المعيش وماضيها الباقي وحضارتها متعددة الأوجه وفنونها الموروثة عبر العصور.
الجمعة 2019/05/31
عصمت داوستاشي يرسم ما يحب ليقول ما يريد

في معرضه الجديد “أرسم ما أحبه”، المقام أخيرا في القاهرة احتفاء بشهر رمضان، يقدم التشكيلي المصري عصمت داوستاشي مجموعة من لوحاته وجدارياته المشحونة بالموروث الحضاري والشعبي، والتي تفيض بالنورانية والحس التصوفي بقراءتها الوجوه في صفائها النادر، واستشرافها تجليات الروح الإنسانية في نقائها ووهجها وانطلاقها.

القاهرة- تتسم تجربة التشكيلي السكندري المخضرم عصمت داوستاشي (76 عاما) بالزخم والثراء والتنوع، فهو فنان شامل يتنقل بخفة عصفور طليق بين الرسم والكولاج والنحت والتصوير الضوئي والأعمال المركبة، وهو فنان مصري حتى النخاع، يستلهم الرموز الشعبية ورحيق الحضارة في عصورها المختلفة وملامح البيئة المحلية وطقوس الحياة اليومية بما تشمله من جوانب اجتماعية وعقائدية، في صياغة عالمه الفني المرهف، بحس تصوفي طفولي.

وفي معرضه “أرسم ما أحبه”، المقام في “أتيليه العرب للثقافة والفنون” في القاهرة، يواصل داوستاشي عبر خمسين لوحة تتنوع بين الرسم والكولاج طرح رؤيته العميقة المتفاعلة مع الموروث الشعبي والحضاري والديني، مقدما الشخصية المصرية المركبة بكل أبعادها المرئية والداخلية.

وتتمحور أعمال الفنان المصري دائما حول بيئته المحلية، بمعناها الجغرافي والتاريخي والبشري، بحاضرها المعيش وماضيها الباقي وحضارتها متعددة الأوجه وفنونها الموروثة عبر العصور الفرعونية والرومانية والإسلامية ومرحلة النهضة في القرنين الماضيين.

عصمت داوستاشي تمكن من كسر الإطار الهش للبورتريهات
الفنان عصمت داوستاشي تمكن من كسر الإطار الهش للبورتريهات

وتتسم تجربة داوستاشي بالتلقائية وبراءة الطفولة، فهو مثل عنوان معرضه الجديد “يرسم ما يحبه”، ومن ثم تأتي أعماله ذات قيمة ومصداقية في ترصدها خارطة الإنسان المصري بأحدث تشكلاتها في “مناخ الغبار والجهل والحقد”، على حد وصفه.

 ففي هذه الأجواء يفتش الفنان عن الغالي والنفيس من القيم والمثل، ويصطاد الأحلام والطموحات والنور الداخلي، ويبحر في طبقات التأمل والإيمان والإشراق الروحي والتصوفي، وصولا إلى الباقي الذي لا يبلى ولا يتغير من معنى الإنسان وحقيقته.

فضاءات الوجوه

جاء المعرض امتدادا لرحلة داوستاشي التي قطع فيها مشوارا طويلا في كشف معطيات البشر والمكان والزمان من خلال نوافذ البورتريهات والفضاءات اللانهائية للوجوه الإنسانية التي يصوّرها وينفذ منها إلى الأسرار الذاتية الكامنة والفتوحات التعبيرية، وغيرها.

الخيط الأساسي الذي بنيت عليه ثيمة المعرض هو الخيط العقائدي أو النبع الإيماني أو الحس الديني، وهذه الروحانيات التي تغلغلت في الأعمال هي قيمة مطلقة تحقق الطمأنينة والوضاءة الداخلية من جهة، كما أنها من جانب آخر تتحول إلى ممارسات على الأرض بين شعائر وعبادات وصلوات وحلقات للذكر والتصوف والإنشاد.

هذا ما أراد الفنان بلوغه في لوحاته الإشراقية التي جاءت متناغمة مع نفحات شهر رمضان وطقوسه الروحية وتجلياته الإيمانية، فما هو عقائدي مندمج في ما هو اجتماعي، وكلاهما سلوك بشري، ومادة للحياة اليومية بتفاصيلها الاعتيادية.

ومن خلال براءة الطفولة والقدرة على تفجير الدهشة تمكن الفنان من كسر الإطار الهش للبورتريهات، مطلقا الملكات اللامحدودة للوجوه لتعبّر عن الشخصية المصرية بكل تراكيبها وأبعادها المرئية والداخلية، الملموسة والمحسوسة. وإمعانا في تعميق الرؤية، انتقى الفنان ما يحبه أيضا من هذه الوجوه، فرسم جدته، وأستاذته التشكيلية عفت ناجي، وفتاة الفيوم، وفتاة بحرية بالتماسّ مع لوحة محمود سعيد الشهيرة.

فيوضات النساء

جاءت المرأة على رأس اهتمامات داوستاشي في معرضه الجديد، ففيوضات النساء بمثابة عطر مقدس متناغم مع توليفة العناصر الروحية بالمعرض، وقد حملت بعض اللوحات إشارات كتابية إلى هذا المفهوم المُعْلي من شأن المرأة، من خلال خطوط الفنان المصاحبة للبورتريه، من قبيل: “جبهة كلها خير”، “حاجب من روائح الجنة”، “رقبة ست الحسن والجمال”، “ورد شفايف.. نور ذقن”.

عصمت داوستاشي يغازل في معرضه الجديد جماليا سحر العيون ونوافذ الوجه الكاشفة عن الفيوضات الداخلية

وقدم الفنان المرأة كذلك كجسد كامل في بعض اللوحات، وحمّله أقصى إمكانات الشموخ والاعتداد بالنفس، لربما إلى حد الزهو، فنساء الفنان لديهنّ الكثير من صفات الملكات والأميرات، بما يحيل أيضا إلى الرسوم الفرعونية في الجداريات المصرية، وربّات الجمال في الحضارات القديمة.

واتخذ عصمت داوستاشي من مغارات الجسد الإنساني ككل والنسوي خـاصة، متاهة للتعبير عن التغيرات التي حدثت في الواقع المصري والعالم بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، فقد تأثرت الحياة الشعبية بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما لم يدع مجالا للمقاومة إلاّ من خلال الطاقة الروحية الإيمانية والتمسك بالأصالة الإنسانية، رغم انهيار الكيانات المادية.

وفي اكتشافه مقومات الخلود لدى الشخصية المصرية، رغم المحن والكوارث المحيطة، وازن داوستاشي في تصويره للرموز الدينية الإشعاعية بين الروافد الفرعونية والقبطية والإسلامية، فالموروث الديني مثله مثل الموروث الاجتماعي، ذائب في الجينات المصرية المعاصرة، وهذه الجينات قادرة دائما على التحدي والصمود.

17