نمطية خطابات العلمانيين لا تجتث أدبيات الإسلاميين

لم يشفع الحصار المفروض في الأعوام الأخيرة على تيارات الإسلام السياسي بمختلف تشكيلاتها في المنطقة العربية، للخطاب العلماني الذي يقدّم نفسه على أنه بديل عملي لتخليص الشعوب من الفكر المتطرف والمرور بها إلى مرحلة الإيمان بمدنية الدولة، لكي يكون حاضرا بقوة ومخترقا لمختلف شرائح المجتمع، وذلك بسبب العديد من الإرهاصات المرافقة لصياغاته المتكلسة والتي بقيت بدورها تدور في حلقة مفرغة جعلته أسيرا لنخب مثقفة تتحدث بلغة لا تعكس الرغبات الحقيقية للعمق الشعبي.
القاهرة – رغم الهزائم المتتالية التي مُني بها تيار الإسلام السياسي في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، إلا أن التيار العلماني لم يحقق انتصارا يؤهله لقيادة الجمهور في المرحلة المقبلة، ما يثير جدلا بين المفكرين حول وجود إشكاليات صعبة تواجه الخطاب العلماني، وتجعله أسير رؤية النُخب المثقفة فقط.
ولهذا الغرض أعد الدكتور أحمد سالم أستاذ الفلسفة المصري دراسة حول أزمة الخطاب العلماني نشرت قبل أيام وأثارت ضجة وسط المثقفين، فمنهم من رأى أنها تعبّر عن الأزمة التي يمر بها هذا الخطاب، ومنهم من اعتبر أنها كشفت الصراع الخفي مع الخطاب الديني، والذي أدى إلى تكلس في مضمون الخطابين.
إن التخوف القائم هو أن تكون هزيمة خطاب الإسلام السياسي ليست نهائية، وإذا كان انسحابه التدريجي من ساحة الفكر العربي مؤخرا قد ترك فراغا كبيرا، فلا بد من شغل هذا الفراغ حتى لا يرتد الخطاب الديني مرة أخرى للسيطرة على أدمغة الناس بأقنعة مغايرة. وحتى يتمكن الخطاب العلماني من ملء الفراغ، فمن الضروري نقده وتصحيح مساره.
تعرية الاستبداد
قال أحمد سالم أستاذ الفلسفة بكلية الآداب في جامعة طنطا، بشمال القاهرة، لـ”العرب”، إنه لا يجد فرقا بين الخطابين الديني والعلماني من حيث الماضوية، حيث عكف الأول على الروايات التاريخية في التراث الديني، لينتقد التراث ككل رغم أن به العديد من الصفحات المشرقة.
وأشار إلى أن العلمانيين يعودون إلى الماضي لتعرية مثالبه، والكشف عن الممارسات السلبية في التاريخ، ومحاولة نزع أقنعة القداسة عن اجتهادات السلف، في حين أنّ دعاة الخطاب الديني يعودون إلى الماضي كي يتخذوا منه وسيلة لتسيير حياة المعاصرين، وكلاهما على خطأ، لأن الماضي انتهى ولم يبق منه سوى عبره ودروسه، والحاضر أولى بالاهتمام والشرح والتركيز والتطوير.
ورأى أحمد سالم أن قطاعا كبيرا من أصوات النخب العلمانية في العالم العربي عجز عن تعرية الاستبداد السائد في المنطقة. ورغم اتهام العلمانيين للخطاب الديني بأنّه قرين الاستبداد السياسي، فإنّ النخب العلمانية أصبحت تؤيد النظم المستبدة لحمايتها من بطش أصحاب التشدد الديني.
كما أن الخطاب العلماني السائد افتقد إلى وضع رؤية مستقبلية لواقع المجتمعات العربية وإمكانيات التغيير، وضرورة التركيز على التنمية الشاملة في كافة نواحي الحياة، ولم ينشغل الخطاب العلماني بالتركيز على قيم الحرية والعدل واحترام الإنسان، وهي القيم التي ينبغي أن تكون مركزية لدى ذلك الخطاب.
وخلص إلى أن الخطاب العلماني المعاصر “لم يراع كون الدين طاقة روحية فاعلة في حياة الشعوب، وخلط البعض بين الهجوم على الخطاب الديني والهجوم على الدين نفسه، ما أدى إلى نفور الناس”.
ولفت إلى ضرورة التقاء الدين والعلمانية في منطلق واحد، وهو أن الإسلام أقرب الأديان التي يمكن أن تنفتح على العلمانية، والتراث العقلي في الإسلام يسمح بذلك.
وكشف أحمد سالم أنه يعد كتابا حول علمانية الإسلام سيحاول فيه التوفيق بين روح الدين الإسلامي والعلمانية بالمفهوم السياسي والاقتصادي.
لم تقتصر الانتقادات الموجهة للخطاب العلماني المعاصرعلى الماضوية والابتعاد عن مشكلات العصر، فهناك من يعتبر أنه افتقد ديناميكيته، بما جعله غير قادر على التعبير عن تطورات العصر وغير مناسب للأجيال الجديدة.
جمود فكري
رأى مصطفى عبدالرازق، مدير مركز دراسات الإسلام والغرب، أن الخطاب العلماني في حاجة ماسة إلى تحديث المفاهيم، قائلا “نحن متخلفون في العلمانية كثيرا عن العالم، وما زلنا نستخدم مصطلحات قديمة لم تعد تستخدم في العالم الغربي”، من بينها مصطلح “التنوير” الذي تجاوزه الغرب تماما، وكذلك لم يعد قادرا على التعبير بشكل حقيقي عن سمات العصر.
وأكد لـ”العرب” أن النخبة بحاجة إلى حوار عقلاني على مستوى الفكر العربي بدلا من فكرة الشد والجذب والانسحاق في قوالب صمّاء قد لا تعبر عن خصائص المجتمعات العربية.
في المقابل، يرى طيف آخر من المفكرين أن انصراف الجمهور عن العلمانية مرده ممارسات خاطئة ممن يتحدثون باسمها.
هنا، أوضح نبيل العيسوي الباحث في شؤون الإسلام السياسي، لـ”العرب” أن مصطلح العلمانية “محمل بمشاعر سلبية عند الناس باختلاف درجات تدينهم، بسبب الممارسة التاريخية عند التيارالعلماني الذي يقدم نفسه كخصم للدين وليس لسلطة رجال الدين”.
ودلف العيسوي إلى مناقشة الفكرة محاولا الإجابة عن السؤال المتكرر؛ إن كان الإسلام دينا علمانيا أم لا، قائلا “هذه مقولة صحيحة من ناحية ومتناقضة من زاوية أخرى، فاشتراك الإسلام والعلمانية في بعض الأفكار، من حرية الاعتقاد وعدم وجود سلطة لرجل الدين على الدولة لا يجعل من الإسلام دينا علمانيا لأنه يتناقض معها في أمور أخرى، منها أنه جعل لنفسه حقا في التشريع ووجه المجتمع إلى الالتزام بضوابطه”.
وحسب رأيه لا يمكن وصف الدين بالعلمانية إلا إذا حقق كل مبادئها وانتفى التعارض تماما، والمقولة الأصح هي أن الإسلام هو الدين الأقرب إلى روح العلمانية من الأديان السماوية الأخرى.
كما أن هناك زاوية أخرى تتمثل في كون العلمانية مرحلة تاريخية كانت حادة في بداية ظهورها ثمّ صدامية في ما بعد، وقد وصل الصدام إلى أقل درجة ممكنة خلال بداية القرن العشرين في أوروبا، بينما انتقل الصدام إلى النموذج التركي للعلمانية ثم إلى الصورة العربية للعلمانية الآن.
ورأى العيسوي، أن استدعاء العلمانية أو محاولة قولبة الإسلام فيها ممارسة سلفية بحتة، ومن الأفضل ألا تتم أدلجة الإسلام ويترك مرنا ومتسعا لاستيعاب أفكار وأيديولوجيات متعددة، فيتفق مع بعضها ويختلف مع الآخر.
يشير بعض المفكرين إلى أن تعميم النظرة إلى العلمانية العربية باعتبارها وجها مختلفا للخطاب الديني يجانبه الصواب، لأن هناك من يؤسسون لعلمانية عقلانية تنبع من احتياجات الإنسان وتتفق مع حقوقه.
وأشار أشرف منصور أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، إلى وجود أسماء عديدة لمفكرين عرب يطرحون علمانية حديثة متطورة قائمة على المنطق والعقل والتواؤم مع مشكلات وواقع الحياة، مثل سعيد ناشيد في المغرب، وعبدالمجيد الشرفي في تونس، وعبدالجواد ياسين في مصر.
وقال لـ”العرب” المشكل أن منتقدي الخطاب العلماني يركزون على أولئك المنتشرين في وسائل الإعلام، لا على الأكاديميين، لذا فإنه يجب التفرقة بين الخطاب العلماني الإعلامي الزاعق وبين الخطاب العلماني الرصين المطروح في كتب علمية ودراسات بحثية عميقة.
رفض المواءمة
يرفض البعض فكرة المواءمة بين الخطابين العلماني والديني، ويعتبرون ذلك محض خيال، وأن التلاقي بين الإسلام والعلمانية التي ترفض التداخل بين الدين والدولة صعب.
وأبدى حسن حماد أستاذ الفلسفة وعلم الجمال، والعميد السابق لكلية الآداب بجامعة الزقازيق، شمال القاهرة، تحفظه الشديد على فكرة تلاقي الدين بالعلمانية لأنهما متناقضان.
وقال لـ”العرب”، إن “الخطاب العلماني لا يمكن تطويعه لخدمة الخطاب الديني من خلال القول بعلمانية الإسلام، لأن كافة النصوص الثابتة في القرآن والسنة ومعظم التفسيرات المتداولة تؤكد وتكرر أن الإسلام دين ودولة”.
هناك كتابات قليلة رأت غير ذلك مثل الطرح الشهير للشيخ المصري علي عبدالرازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، وهو طرح يعتمد على أن القرآن لا يتضمن نصوصا تؤكد دولة الخلافة، وحتى هذه الطروحات تمثل نتوءات صغيرة في بحر تسييس الدين.
أما الحديث عن علمانية الإسلام، فهو أكثر غرابة، ومن يطرحون ذلك -في تصور حسن حماد- يفرقون بين النظرية والممارسة الفعلية، وفي الواقع فإن ذلك مستحيل، وهو “لا فرق بين النظرية والتطبيق، وكل تطبيق اختبار عملي للنظرية”.
ويؤكد حماد أن الجمع بين الإسلام والعلمانية “متهافت تماما”، وأن الفلاسفة سبق وأن طرحوها، لكنهم لم يستندوا إلى حجج قوية لإثباتها.