مزدوجو الهوية وجه التنوع الجميل في المجتمعات العربية

يجمع الزواج الفرقاء، وتحت رباط المودة والرحمة والرغبة في إقامة أسر جديدة يلتقي رجل من بلد ما بفتاة من بلد آخر، ويؤسسا معا أسرة جديدة، يتسم أبناؤها أحيانا بما يعرف بـ”ثنائية الهوية”.
القاهرة - اتسعت ظاهرة “ثنائية الهوية” ونمت بسبب سقوط حواجز الحدود واللغة والثقافة، وأصبح الأمر أشبه بموجة غير معتادة تُلقي بظلالها على المجتمعات العربية، ما فتح باب الجدل حول مكاسبها وخسائرها على المجتمع.
ويلعب مكان الإقامة والعيش دورا مهما في تغليب انتماء ما على غيره، فإذا كانت إقامة الأسرة في بلد الأب، فإن الأبناء تغلب عليهم هوية الأب، وإن كانت الإقامة في بلد الأم، يشعر الأبناء أنهم يحملون هويتها.
وفي تصور البعض أن قوانين الدول التي تنتمي إليها الأم تلعب أيضا دورا في ترسيخ الانتماء والاندماج المجتمعي، إذ ترفض بعض البلدان العربية منح الجنسية عن طريق الأم، ما يمثل معاناة للأبناء، خاصة إذا استقر بهم العيش في بلد الأم.
تشتت الهوية
حنان القاضي، فتاة ثلاثينية، تعيش في القاهرة، والدها سياسي إريتري، وأمها مغربية، حكت لـ”العرب” تجربتها المثيرة كأحد النماذج الواضحة على ظاهرة ثنائية الانتماء والهوية بما لها وما عليها.
ذكرت أنه في ظل الحرب المحتدمة بين إثيوبيا وإريتريا، نشأت حركة تحررية كان والدها أحد أقطابها البارزين، وغادر بلاده خلال الثمانينات إلى المغرب، وهناك التقى وأحب فتاة مغربية، ثم تزوج منها لتكون حنان إحدى ثمار قصة الحب بينهما.
توقفت الحرب ونالت إريتريا استقلالها، وغادر والدها السياسي المغرب، لكنه لم يرجع إلى بلاده، حيث فضل العمل بالسياسة على المستوى الإقليمي، واستقر به العيش في القاهرة منذ عام 1995 لتتأقلم بذلك الأسرة في مجتمع ثالث.
عانت حنان القاضي وشقيقاتها في البداية من شعور الازدواجية المعقدة، فلم تعرف إن كانت إريترية أم مغربية أم مصرية.
لفتت إلى أن الأبناء غالبا يكونون أميل إلى الانتماء لهوية الأم وثقافتها طوال فترة الطفولة والمراهقة، غير أنهم بعد النضج الكامل يبدأون الالتفات إلى معرفة موطنهم الرسمي والقانوني، وهو ما حدث معها وشقيقاتها، لذا فقد سافرت إلى إريتريا بعد وفاة والدها للتعرف على الهوية الأساسية وجذور العائلة.
كشفت القاضي لـ”العرب” أن تشتت الهوية والشعور في بعض الأحيان بالغربة والإحساس بوجود نظرة مختلفة من المجتمع المحيط، تمثل سمات سلبية لظاهرة يعرفها كل ثنائي الهوية.
لكن على الجانب الآخر هناك جوانب إيجابية واضحة يمكن ملاحظتها، أبرزها: توسيع ثقافة الأبناء، وسرعة التأقلم مع فكرة التعددية والتنوع، والتعود على الاختلاف، والنشأة على ضرورة صناعة أرضيات مشتركة مع الآخرين. وذكرت الفتاة نصف الإريترية، نصف المغربية، أن أهم شيء يتكون في نفوس أبناء الزوجين من جنسيات مختلفة هو إيمانهم بفكرة قبول الآخر والتعايش مع المجتمع.
أكدت أن اعتيادها على فكرة التعدد والاختلاف غرس فيها شعورا دائما بضرورة التآلف بين الناس، لأن الاختلاف لا يعني أبدا العداء، بدليل أن شخصين مختلفين في الهوية واللون وبلد الميلاد يجمعهما الحب ليكوّنا معا أسرة جديدة.
ويؤكد خبراء علم الاجتماع أن معظم الأبناء الذين يولدون في مجتمعات منغلقة، ولأبوين من نفس الجنسية والهوية قد يعانون من شعور دائم بـ”رهاب الأجانب” وينظرون إلى الآخر غالبا باعتباره متآمرا أو عدوا.
أوضحت القاضي أن العالم ليس جنسا واحدا، فهناك اختلافات جذرية في اللون والمعتقد والفكر والتكيف مع المجتمع، وهو أهم ما تعلمته كونها مزدوجة الهوية والجنسية.
والدليل أن حنان القاضي تأقلمت سريعا مع مجتمع ثالث، فضلا عن موطني والديها، وهو المجتمع المصري الذي استقرت فيه بشكل نهائي، ونجحت في استيعاب الاختلاف في الثقافات والسمات المجتمعية، حتى أنها تتحدث الآن باللهجة العامية المصرية، وترتبط بصداقات واسعة مع عرب وأجانب.
ضرورة الموازنة
يعتبر بعض أبناء الأسر ثنائية الجنسية تجاربهم أشبه بسلاح ذي حدين، ويرون ضرورة الموازنة بين مكاسب وخسائر التجربة بشكل عملي.
وقالت حنان زين الدين -فتاة في بداية العقد الرابع، تعمل مديرة مبيعات إقليمية في إحدى الشركات متعددة الجنسيات بالقاهرة، وتنتمي إلى أب مصري وأم جزائرية- إنها قضت الجانب الأكبر من عمرها في الجزائر، قبل أن تستقر في مصر بشكل نهائي.
وأشارت لـ”العرب” إلى أن اختلاف جنسية والديها مثّل لها في البداية هاجسا مقلقا، وشعرت بصعوبة شديدة في التعامل مع المجتمَعَين الجزائري والمصري، فقد كان كل مجتمع يعتبرها غريبة، ليعاملها الجزائريون باعتبارها مصرية، ويعاملها المصريون باعتبارها جزائرية.
أثار ذلك صراعا نفسيا داخلها، لكنها استوعبت النقاط الإيجابية في الأمر، وأهمها الشعور بالتنوع الثقافي والمعرفي وتراكم الخبرات والقدرة على التعامل مع أجناس مختلفة من البشر، وهو ما أتاح لها فرص عمل أفضل.
وتعتقد الكثير من الشركات العالمية متعددة الجنسيات التي أقامت لها فروع في بعض البلدان العربية، أن هؤلاء يملكون مهارات عديدة تحمل فائدة مباشرة، منها سرعة التعلم وسعة المعرفة والقدرة على التأقلم مع المجتمع والتكيف مع الجنسيات الغريبة، فضلا عن الانتقال من نمط وظيفي معين إلى آخر بسهولة ويسر.

ولفتت زين الدين إلى أن هناك مزايا عملية مباشرة يجنيها الأبناء “ثنائيي الانتماء”، حيث تهتم الشركات العالمية بتوظيف المتقنين لعدة لغات أجنبية ومزدوجي الجنسية ومتعددي الثقافات والمعارف أكثر من غيرهم من المتقدمين لشغل وظائفها.
وقالت إن المزايا التي تحصل عليها باعتبارها أجنبية أعلى من مزايا عملها كمصرية، رغم عملها في بلد والدها، لأن هناك بدلات وحوافز إضافية، ومزايا متعددة يحصل عليها الموظف الأجنبي، ما يدفعها إلى العمل في مصر بالجنسية الجزائرية لا المصرية. ويحتاج الآباء والأمهات إلى توعية أبنائهم بأن اختلاف الهويات والانتماءات مسألة طبيعية، ويشعرون أن واجبهم الحقيقي هو السعي إلى أقلمة الأبناء منذ الصغر على إدراك طبيعة الاختلاف بين الجنسيات، باعتباره سمة محمودة، وليس مشكلة مذمومة.
ويمكن ترسيخ القيم والمبادئ النبيلة المشتركة، لأن الأمر سهل حال كان الزوجان ينتميان إلى دولة عربية، حيث توجد مساحات مشتركة واسعة يُمكن التوحد فيها.
ويمكن للزوجين من مختلفي الجنسية أن يزرعا في أبنائهما قيما عربية عديدة، تكاد تكون مشتركة بين جميع العرب، مثل الكرم، وحسن الضيافة، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاجين، وحسن معاملة الجيران والانخراط في المجتمع.
ولا يجد كثيرون صعوبة في إذكاء قيم وأخلاقيات عديدة مشتركة بين العرب في نفوس أبنائهم، لأنه ببساطة لا يوجد اختلاف جذري بشأن الأخلاق في العالم العربي، فالمنكرات والقبائح تكاد تكون واحدة، وهو ما يختلف نسبيا عند المقارنة مع المجتمعات الغربية. ومع التسليم بأن انتماء الأبناء يكون غالبا لمكان الإقامة، فإنه يجب منحهم قدرا جيدا من المعرفة بشأن ثقافة الطرف الآخر، من عادات وتقاليد، وطقوس الطعام، والأمثال الشعبية، والفنون.
تبدو القضية دقيقة بصورة أكبر عند انتماء الزوجة إلى جنسية غير عربية، مع وجود حواجز أخرى في الدين واللون، مثلما هو الحال عند الاقتران بفتاة غربية.
في تلك الحالة يشعر الأبناء بحدة الفوارق بين والديهم، ما يستدعي جهدا أكبر من جانب الآباء والأمهات لشرح طبيعة الاختلاف للأبناء، حتى يصبحوا قادرين على مواجهة تساؤلات المحيطين بهم والرد عليها من دون شعور بأي غربة.
ويذكر أحمد عبدالعزيز -رجل أعمال مصري متزوج من روسية، ومقيم في حي المقطم بالقاهرة، ولديه ثلاث بنات- لـ”العرب” كيف عمل هو وزوجته على توعية بناته وإقناعهن بأن اختلاف جنسية والدتهن عن جنسية المجتمع الذي يعشن فيه يعد سمة تميّز لا مؤشر نقص، ما يؤهلهن لاكتساب معارف وخبرات متنوعة. وشدد على أن الله دعا الشعوب المختلفة والمتنوعة إلى التعارف والتآلف والتعاون على ما فيه خير البشر، وهي رسالة ربانية تبين أهمية التداخل مع المجتمعات الأخرى.
وأوضح أنه حريص على عدم قطع أواصر الصلة التي تربط بين بناته وبلد زوجته، إذ تسافر الأسرة في كل صيف إلى هناك، وتلتقي الفتيات مع جدتهن، ويقابلن أصدقاء وأقارب والدتهن، ويذبن تماما في المجتمع الروسي كأنهن ولدن ونشأن فيه.
وقال عبدالعزيز إن بناته يتحدثن اللغتين العربية والروسية بطلاقة، ولديهن عشق لتاريخ مصر القديم، واهتمام كبير بالأدب والفن الروسيّيْن، ونشأن على احترام عقائد الآخرين، والتسامح معهم والانفتاح الكامل على العالم، “يتعاملن كروسيات في روسيا، ومصريات في مصر، ولم تعد النظرة المختلفة من البعض تجاههنّ تمثل هاجسا أو داعيا إلى الشعور بالغربة، وهو ما خلق درجة عالية من النضج المبكر”.
نبوغ فكري
يرى البعض أن أبناء مختلفي الجنسيات أكثر نبوغا واهتماما بالمعرفة وأفضل قدرة على مواجهة أفكار التشدد والتعصب والتطرف من غيرهم.
وأكدت هبة إمام -خبيرة العلاقات الأسرية- لـ”العرب” أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الأسر ثنائية الجنسية أقدر على مواجهة التطرف الديني ودحض أفكاره مبكرا، استنادا إلى ذهنية متحررة تقبل التعدد والتنوع.
وفي تصورها يؤمن هؤلاء بضرورة تعايش الناس معا، ما يدفعهم إلى إنكار التعصب لفكرة ما أو قومية بعينها، وعدم الانسياق وراء دعوات التحريض على الكراهية باسم الدين أو الجنسية أو العرق.
وفي رأيها من الضروري مراعاة ما ينطوي عليه إصرار المتطرفين على تصوير كل أجنبي باعتباره مختلفا، ثم يتطور التوصيف بعد ذلك ليصبح الأجنبي خصما للمجتمع.
إذا كان المتشددون دينيا يرون المخالف في العقيدة كافرا يستحق وصف “عدو لله والدين”، فإن المتطرفين وطنيا يعتبرون كل غريب -أو أجنبي-، ذكرا أو أنثى، يقترن بابن بلدهم، “عدوا للبلد الذي قدم إليه”؛ فالتطرف واحد، والمتطرف يضيق ذرعا بكل ما يختلف معه.
وأشارت إمام إلى أنه لا توجد دراسات أكاديمية توضح مدى ارتباط الأمر بالتفوق العلمي والدراسي، لكنْ لدى الصغار ذكاء ووعي اجتماعي أفضل من غيرهم، ما يساهم في سرعة تحصيلهم لمختلف ألوان العلوم والتفوق الدراسي على أقرانهم.
ورأت إمام أن الانفصال بين الزوجين لا يعني نزع ثقافة التعايش وقبول الآخر، التي تكونت لدى الأبناء، لأنهم تلقوها واستوعبوا معالمها وهضموها مبكرا، فضلا عن عدم وجود ما يدلل على صحة الطرح الخاص بارتفاع معدل انفصال الزوجين من مختلفي الجنسية عن غيرهم، لأن الانفصال قد يتم لأسباب عديدة لا تتعلق بالجنسية.
تستدعي الظاهرة دراسات مجتمعية مستفيضة وعميقة لأنها آخذة في التزايد مع الوقت، تحت ظلال ثورة التكنولوجيا وسهولة تدفق المعرفة والتقارب الحاصل في الكثير من الثقافات، وظهور جيل جديد أكثر تمردا وجرأة وأشد حرصا على التميز والتفوق في الكثير من الدول العربية.
قال الناقد الأدبي خيري حسن لـ”العرب” “أجيال الشباب القادمة لا تستغرب أمرا ولا تستبعد طرحا، وإنما تتجه بسرعة ولهفة إلى كل فعل غريب مدهش”.
وأوضح أن الاقتران بأخرى، عربية أو غير عربية، يأتي كرد غير مباشر على التوجهات الرسمية لدى بعض الدول للانغلاق تحت لافتات تجنب المؤامرات الخارجية، أو تأثرا بالثقافة الدينية للمجتمعات التي تتحفظ على الانفتاح والتسامح.
ولا ترى الأجيال التي تربت على “السوشيال ميديا”، وسقوط الحواجز والحدود بين الكثير من المجتمعات، حدودا في العلاقات العاطفية والزواج، لذلك فأبناء الهويات الثنائية قادمون بقوة، ما سيحدث تغييرات مجتمعية كبيرة.