منظمة التجارة العالمية تحتاج إلى تحديث في القواعد والمبادئ

تلقي الصراعات الدولية والحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة بتداعياتهما على النظام التجاري العالمي وتؤثران سلبا على عمل منظمة التجارة العالمية التي تمر كغيرها من المنظمات الدولية والأممية بمنعرجات حاسمة، تحتاج معها إلى عمليات إصلاح كبرى وإلا سيكون مصيرها الانهيار.
لندن – حذّرت الصين من أن السياسة التجارية الأميركية تهدد وجود منظمة التجارة العالمية، التي لم تكد تنهض من تداعيات أكبر أزمة مالية عالمية في العصر الحديث، حتى دخلت في فوضى الحرب التجارية التي تشنها واشنطن.
وما يضاعف الخطر وفق الخبراء هو هشاشة المنظمة التي شهدت على مدار السنوات الماضية عدة هزات، من ذلك تعطيل اتفاق تاريخي تم التوصل إليه في بالي ديسمبر 2013 ينص على تعديل وتبسيط لقواعد التجارة الدولية، خاصة ما يتعلق منها بالإجراءات الجمركية بين الدول الأعضاء.
في ذلك الوقت، علق المدير العام لمنظمة التجارة العالمية، روبرتو إزيفيدو، على التعطيل بقوله إن المنظمة تواجه “أخطر أزمة” منذ تأسيسها، دون أن يخطر بباله أن ما سيأتي به الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيكون أشدّ خطرا.
وتقول الحكومة الصينية إن “السياسة الأميركية تضر بشكل جدي بمصالح، الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وخاصة المتنامية منها، وتقوض سمعة وفعالية المنظمة الدولية نفسها. وكنتيجة لذلك تصطدم المنظمة، بتهديد غير مسبوق لوجودها”.
وكانت الصين ممن دعوا إلى إجراء إصلاحات وتخليص المنظمة من الإجراءات أحادية الجانب التي تتعارض مع قواعدها، معتبرة أن إساءة استخدام أو التمادي في استخدام تدابير الحماية التجارية الحالية، تسببت بأضرار جسيمة لنظام التجارة الدولية القائم.
وتؤيد ماريان شنيدر-بتسيتغر، الباحثة في المعهد الملكي البريطاني للسياسات الخارجية (تشاتام هاوس) الدعوات إلى إصلاح المنظمة حتى تكون قادرة على حماية منظومة التجارة الدولية. وترى أن منظمة التجارة العالمية تمر بلحظة “فشل”، حيث تتعرض جميع وظائف المنظمة لضغوط وتحتاج إلى إصلاح: إدارة قواعد التجارة متعددة الأطراف، العمل كمنتدى للمفاوضات التجارية، وتوفير آلية لتسوية النزاعات التجارية. لكن، على الرغم من التوقعات القاتمة، تعتبر شنيدر-بتسيتغر أن هناك ما يبعث على التفاؤل وإن بحذر، مشيرة إلى أن معالجة أوجه النقص في نظام تسوية المنازعات تعتبر النقطة الأكثر إلحاحا. وعلى الرغم من القلق السائد بسبب تهديدات ترامب المتكررة بسحب الولايات المتحدة من المنظمة، من غير المرجح أن يحدث ذلك نظرا إلى دور الكونغرس والتكاليف الاقتصادية المترتبة على القرار.
وبدلا عن ذلك، يكمن الخطر الحقيقي في تفكيك الإدارة الحالية للنظام التجاري الدولي القائم على قواعد تنظم مختلف الإجراءات من الداخل مثل رفع التعريفات باسم الأمن القومي للولايات المتحدة ومنع تعيين أعضاء في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية.
تسوية النزاعات
تريد الإدارة الأميركية الحالية العودة إلى أيام تسوية النزاعات حسب الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، التي سبقت منظمة التجارة العالمية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت الأكثر صراحة في انتقاداتها لنظام تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، فإنها لم تقدم أي مقترحات محددة لإدخال إصلاحات على هيئة الاستئناف.
ولتهدئة المخاوف الأميركية، قدم الاتحاد الأوروبي مقترحات ملموسة وعقدت كندا اجتماعا لوزراء التجارة حضره 13 عضوا في منظمة التجارة العالمية في سنة 2018 لمناقشة سبل الإصلاح. وهدفت المناقشات الثلاثية التي بدأت سنة 2017 بين الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي إلى معالجة الممارسات التجارية للصين أولا ولكنها امتدت لتتحول إلى جهود لإصلاح منظمة التجارة العالمية.
حتى الآن، رفضت إدارة ترامب جميع مقترحات الدول الأخرى الإصلاحية، وتبقى طبيعة الاقتراحات هي التي ستكون كافية لتهدئة المخاوف الأميركية الغامضة.
مع ذلك، تحمل أزمة هيئة الاستئناف الحالية جانبا مضيئا، فهي تجبر أعضاء منظمة التجارة العالمية على تنظيم بحوث ذاتية في داخلها لمعالجة أوجه النقص التي يعاني منها نظام تسوية النزاعات الحالي. علاوة على ذلك، ودون القيادة الأميركية التقليدية، بدأ أعضاء آخرون في منظمة التجارة العالمية في اتخاذ أدوار أكثر مركزية والدعوة لضمان نظام تجارة عالمي قائم على القواعد.
وترى شنيدر-بتسيتغر أنه في حين يعتبر تزايد القيادة المتأتية من القوى التجارية الكبرى (مثل الاتحاد الأوروبي واليابان) أمرا مهما، يتعين على اللاعبين المتوسطين والصغار أن يفتكوا دورا أكبر. بالنسبة إليهم، تحمل حماية منظمة التجارة العالمية أهمية خاصة لأنها توفر المسار الرئيسي لمشاركتهم في وضع قواعد لمجالات السياسة التجارية الجديدة.
منتدى لتحرير التجارة
تأسست منظمة التجارة العالمية في الأول من يناير 1995 من أجل تحديد القوانين الجديدة للتجارة الدولية وتسوية النزاعات التجارية بين دولها الأعضاء،
وتمثل الجهود المبذولة لإحياء أهمية منظمة التجارة العالمية كمنتدى لتحرير التجارة مجال اهتمام آخر. وقد أثار الانهيار الفعلي لجولة الدوحة للتنمية سنة 2008، بعد 7 سنوات من تأسيسه وعجزه أمام قضية الإعانات الزراعية، أسئلة حول مدى فاعلية إجراء محادثات تجارية تشمل أكثر من 160 عضوا مع استناد إلى مبادئ الإجماع (يعني وجوب توافق جميع الأعضاء) والتعهد الواحد (أين لا يتفق على أي شيء حتى يتم الإجماع على كل شيء).
وأعاق الفشل في اختتام جولة الدوحة تركيز جهود أعضاء منظمة التجارة العالمية على تحديث قواعد النظام التجاري العالمي من أجل معالجة التغييرات التي طرأت منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية.
ولا تستطيع منظمة التجارة العالمية التعامل مع الدور المتزايد للمؤسسات المملوكة للدولة أو التجارة الرقمية. ولمعالجة بعض هذه القضايا التجارية الجديدة بعد مأزق جولة الدوحة، تحول الشركاء التجاريون إلى اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية أو اتفاقيات إقليمية أكبر مثل اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ لتحرير التجارة.
تابعت مجموعة فرعية من أعضاء منظمة التجارة العالمية مفاوضات متعددة الأطراف ركزت على جملة أضيق من القضايا. في الآونة الأخيرة، وافق 76 من أعضاء منظمة التجارة العالمية (بما في ذلك الولايات المتحدة والصين واليابان والاتحاد الأوروبي) على البدء في التفاوض بشأن قواعد التجارة الإلكترونية. غير أنه لا يمكن أن تعتبر الجهود متعددة الأطراف حلا سحريا، لكنها قد تسد ثغرات كبيرة.
وتشير شنيدر-بتسيتغر في دراستها إلى أنه هناك مجال آخر للإصلاح يتعلق بمشكلة عدم وجود تعريف متفق عليه ليحدد ما يشكل دولة متقدمة أو نامية في منظمة التجارة العالمية، إذ يعين الأعضاء وضعهم بأنفسهم. ويستفيد أعضاء منظمة التجارة العالمية الذين يصنفون أنفسهم ضمن الدول النامية من ما يسمى “المعاملة الخاصة والتفضيلية”.
وتضع حقيقة تصنيف 10 دول من مجموعة العشرين (بما في ذلك الصين والهند وكوريا الجنوبية) نفسها كدول نامية في منظمة التجارة العالمية نقطة خلاف رئيسية. وقد يدفع قرار البرازيل الأخير بالتخلي عن صفة بلد نامٍ إلى نقاش وضع معايير قابلة للقياس لتوضيح الوضع الإنمائي للبلد.
لكي ينجح هذا، يجب أن يشمل إصلاح منظمة التجارة العالمية علاج مختلف وظائفها. ونظرا لاستناد القرارات التي تتخذها المنظمة إلى توافق الآراء، تبقى فرص إجراء إصلاح أساسي ضئيلة. لذلك، ينبغي أن يشمل إصلاح منظمة التجارة العالمية القضايا المؤسسية الأوسع نطاقا وينبغي للأعضاء أن يعيدوا النظر في بعض مبادئ المنظمة ونظام صنع القرار.
على المدى القصير، ينبغي إعطاء الأولوية للجهود المبذولة لإصلاح نظام تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية لتفادي أزمة هيئة الاستئناف الحادة التي تلوح في الأفق في أواخر السنة الحالية. ويحمل هذا المسعى الإصلاحي الأضيق فرصا أكبر للنجاح.
وترى شنيدر-بتسيتغر في خطاب إدارة ترامب وتصرفاته تجاه منظمة التجارة العالمية نعمة مخفية، إذ يمكن أن يساعد في تكثيف وتسريع الإصلاحات التي طال انتظارها. وتقول إنه من خلال هز الشجرة، يأمل المحللون في أن تسقط بعض الثمار. ولكن، وعلى حد تعبير المدير العام لمنظمة التجارة العالمية روبرتو أزيفيدو، يجب على أعضاء المنظمة التأكد من أنهم لا يقتلون الشجرة عند هزها بقوة. إذ سيؤدي موت منظمة التجارة العالمية إلى خلق المزيد من الحواجز التجارية وإلى خنق بيئة النظام التجاري العالمي وتحوّلها إلى مجال لا يمكن التنبؤ بمستقبله.