شركات سبر الآراء.. التوجيه المسيّس للناخب أكبر طعنة للديمقراطية

تضارب النتائج المقدّمة يبعث الشكوك لدى الناخب في ظل وجود اختلافات عميقة في مستوى المؤشرات التي تطرحها شركات سبر الآراء بشأن نوايا التصويت.
الثلاثاء 2019/05/07
الناخب ضحية تجارة الاستطلاعات

في الأصل، تُعد مسألة سبر الآراء علما قائما بذاته ويحتكم إلى ضوابط وقوانين تجعل من عملية الاستطلاع ذات مصداقية وغير مُرتهنة بأي توجيه أو صناعة للرأي من أي طرف سياسي أو ديني أو لوبيات مالية ضخمة تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة، ولذلك فإن هذه العملية التي التصقت بالديمقراطية منذ عقود تهدف أساسا في جوهرها إلى فهم وجهات نظر جميع آراء مختلف الطبقات والشرائح المجتمعية بغية الوصول إلى تكوين صورة واضحة عن شواغل المجتمعات واهتماماتها.

لكن النجاحات التي حقّقتها شركات استطلاع الرأي منذ أوائل القرن العشرين بعدما نجحت مثلا في التنبؤ بفوز المرشح الرئاسي في الانتخابات الأميركية وودرو ويلسون في عام 1913 وما تلى ذلك من نجاحات مماثلة جعلت عموم الناس يثقون في ما تقدمه استطلاعات الرأي، لم تعد راهنا مقياسا حقيقيا لمصداقية عملية سبر الآراء التي باتت اليوم في عصر العولمة المنفتح محل اتّهام متواصل، لا فقط في الديمقراطيات الناشئة بل حتى في أعتى الديمقراطيات.

الانتخابات الأميركية الأخيرة، تُبرز بشكل واضح وجلي أن بعض شركات سبر الآراء انساقت وراء خطاب المغالطة وفرّطت في المعايير العلمية المحايدة، لتدخل بدورها صراعات سياسية وأيديولوجية حولتها في النهاية من مؤسسات استطلاع للرأي إلى شركات تصنع الرأي وتوجّهه وتكيفه وفق مصالحها وانتماءاتها الحزبية.

في شهر نوفمبر 2016، سويعات فقط قبل توجه الناخبين الأميركيين إلى الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، رجّحت جل استطلاعات الرأي كفة المرشحة الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون على حساب الرئيس الحالي دونالد ترامب، لكن الصدمة كانت مزدوجة ومضاعفة بالنسبة لمن يثقون في نتائج الاستطلاعات، فقد فاز ترامب على كلينتون وهزم موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” الذي توسله الرئيس الأميركي في حملته الانتخابية، توجيهات شركات سبر الآراء ووسائل إعلام عريقة انحازت إلى المعسكر الديمقراطي.

اصطفاف شركات سبر الآراء وراء حزب على حساب آخر أو الانحياز إلى مصلحة مرشح رئاسي بعينه ضرب من ضروب الغش والطعن المقصود للديمقراطية

الانتخابات الأميركية تُعد مثالا حيا على هامش الخطأ أو الضلوع المتعمد لشركات استطلاع الرأي في توجيه وصناعة آراء الناخبين، فما بالك ببعض التجارب الديمقراطية الفتية ومنها تجربة تونس على سبيل المثال، التي تستعد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية هامة في موفى العام الجاري، ليكثر الجدل مؤخرا حول ما تقدّمه شركات سبر الآراء من نتائج مختلفة ومتضاربة تماما، فشركة “سيغما كونساي” مثلا تقدّم رئيس الحكومة يوسف الشاهد في المرتبة الرابعة في نوايا التصويت للانتخابات الرئاسية، فيما تقدّمه شركة “امرود كونسيلتنغ” في نفس الأسبوع تقريبا على أنه في المرتبة الأولى، متجاوزا شخصيات سياسية منافسة له ومنها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أو بعض رموز المعارضة.

إن تضارب النتائج المقدّمة يدفع حتما إلى التساؤل، بمن سيثق الناخب في ظل وجود هذه الاختلافات العميقة في مستوى المؤشرات التي تطرحها شركات سبر الآراء بشأن نوايا التصويت؟ خاصة أن المسألة لم تعد فحسب مبعثا على قلق المواطن العادي بل باتت تقض مضاجع أبرز الساسة بل وحتى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي قرّرت يوم 4 مايو إغلاق هذا الملف نهائيا بمنعها وسائل الإعلام من بث ونشر نتائج الاستطلاعات انطلاقا من 16 يوليو القادم أي قبل ثلاثة أشهر فقط من الانتخابات التشريعية.

ودعم الرئيس الباجي قائد السبسي ما يدور في الشارع التونسي من اتهامات لاستطلاعات الرأي، بتأكيده في إطلالة إعلامية كانت مخصّصة في الأصل لتهنئة التونسيين بشهر رمضان أن “تونس تعيش حمى الانتخابات” وأن عمليات سبر الآراء فقدت مصداقيتها، بعدما تنافست الشركات على تجنيد خدماتها لخدمة أطراف سياسية على حساب أخرى.

علاوة على تضارب النتائج التي تقدمها شركات سبر الآراء ما يجعلها محل تشكيكات، فإن مسألة أخرى يجب التطرق إليها عند التعاطي مع هذا الملف وتتعلق بالاستطلاع في حد ذاته والذي يبقى من الناحية العلمية المحضة وبعيدا عن تعمّد الشركات المعنية بسبر الآراء صناعة مرشح بعينه للانتخابات الرئاسية على حساب مرشحين آخرين، نسبيا بل وخاضعا للمرحلة أو الفترة التي يتم فيها استجواب الناخبين، ولذلك فإن نتائجه الحينية لا تُعدّ ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان، بل تتغيّر مع تبدّل المعطيات والمناخات السياسية، بمعنى أن المنتشي اليوم بتصدر نوايا التصويت قد يجد نفسه بعد أشهر قليلة متذيّلا لترتيب قائمة المرشحين، لا لشيء وإنما لأن المستجوب عادة ما يقدّم انطباعه حول الشخصية السياسية بالاحتكام إلى ما تُقدمه راهنا، وليس على ضوء تقييم موضوعي يناقش بعمق البرامج والبدائل التي يطرحها لقيادة البلاد.

تختلف الآراء والتقييمات بشأن ما تقدمه شركات سبر الآراء وما تحاول أن تصيغه من مضامين تراهن على توجيه اهتمامات الناخب، لكن في ظل اللّغط المثار حولها، لا يختلف عاقلان حول حقيقة أن انغماسها في العمل السياسي أو اصطفافها وراء أجندة حزب على حساب آخر أو الانحياز إلى مصلحة مرشح رئاسي بعينه ضرب من ضروب الغش والطعن المقصود للديمقراطية، بل تزييف لإرادة الناخبين والزج بهم في مشاريع سياسية تصنعها ماكينات دعائية لا هم لها سوى الاسترزاق من الساسة والسياسيين فتدفع الشعوب ثمن مغالطاتها.

12