اليسار التونسي في اختبار جديد.. تثبيت التماسك أو الانفجار

الجبهة الشعبية تفسح المجال للإسلاميين وأحزاب النظام القديم، وأهم إشكالات اليسار التونسي تتلخص في تركيزه بإطناب على ما هو أيديولوجي بقاء قياداته في أبراج عاجية.
الاثنين 2019/05/06
الجبهة الشعبية تسير من تلقاء نفسها نحو الانتحار

تعيش الجبهة الشعبية وهي إحدى أهم التشكيلات السياسية اليسارية في تونس على وقع أزمة عميقة ومتواصلة وذلك قبيل بضعة أشهر فقط من إجراء تونس لمحطات انتخابية هامة، حيث سيتوجه التونسيون في الـ6 من أكتوبر القادم لانتخاب أعضاء البرلمان، فيما سيكونون مع موعد ثان في الـ3 من نوفمبر لانتخاب رئيس للبلاد. ومردّ شبح التفكك الذي يحاصر الجبهة الشعبية يكمن في تزاحم بعض الأسماء لنيل ثقة القواعد اليسارية والقومية للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، حيث ما زال التنافس بين الناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمة الهمامي والنائب بالبرلمان عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد المنجي الرحوي لم يحسم بعد.

تونس – تمر الجبهة الشعبية وهي تجمع تونسي معارض من أحزاب يسارية وقومية، بأصعب الفترات التي قد تؤدي في قادم الأيام إلى تفككها بسبب تواصل الأزمة بين مكوّنين يساريين أساسيين داخلها وهما حزب العمال التونسي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد.

اندلعت الأزمة بين الحزبين المذكورين منذ أشهر عندما نشر حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد بيانا أكّد فيه أن مرشحه ومرشح الجبهة للانتخابات الرئاسية القادمة سيكون النائب الممثل له داخل البرلمان المنجي الرحوي.

ويتزعم حزب العمال الناطق الرسمي الحالي للجبهة الشعبية حمة الهمامي، فيما يُعد حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد من أبرز المكونات للجبهة على اعتبار أنه حزب المعارض السياسي شكري بلعيد والذي تم اغتياله في 6 فبراير 2013 إبان حكم “الترويكا” آنذاك، والذي قادته حركة النهضة الإسلامية والمتهمة أخلاقيا وسياسيا وقضائيا من قبل مكونات الجبهة الشعبية بتحمل مسؤولية اغتيال بلعيد وكذلك الناشط السياسي للجبهة محمد البراهمي الذي تم اغتياله أيضا في 25 يوليو 2013.

ورغم مرور أشهر على الأزمة التي انطلقت ببيان أصدره حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد وقوبل بقرار من المجلس المركزي للجبهة الذي صوّت لفائدة حمة الهمامي ليكون مرشح الجبهة للانتخابات الرئاسية، إلا أن المشكلة لم تفضّ بعد في ظل تمسّك حزب شكري بلعيد بموقفه وتهديده بالانسلاخ عن الجبهة إن لم يتم احترام قراره.

13 مايو المقبل، موعد هام يحدد مستقبل الجبهة الشعبية، بعد النظر في جدل المرشح للرئاسة

والمجلس المركزي للجبهة الشعبية يتكون من كل الأمناء العامين للأحزاب المنضوية داخلها، وقد حسمت آلية التصويت منذ أشهر الكفة لصالح حمة الهمامي، فيما لقي هذا القرار معارضة من قبل حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد وكذلك حزب القطب الديمقراطي وهو حزب يساري لتجديد الثقة في الهمامي لكي ينافس في الاستحقاق الرئاسي.

الجديد في هذا السجال المنذر بالمزيد من إضعاف الجبهة الشعبية، أكّدته مصادر رسمية من داخل الجبهة الشعبية لـ”العرب” بتشديدها على أن المجلس المركزي منح فرصة ثانية لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد لكي يتراجع عن مواقفه السابقة والانضباط وفق مواقف الأغلبية داخل الجبهة.

فرصة أخيرة

أكدت نفس المصادر، أنه تم تحديد موعد 13 مايو المقبل لانعقاد المجلس المركزي للجبهة للنظر في مواقف حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد المتشبث بترشيح الرحوي للانتخابات الرئاسية.

والمنجي الرحوي، هو نائب عن الجبهة الشعبية وعن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد في البرلمان، ويعدّ أكثر النواب تجربة على اعتبار أنه الوحيد الذي نجح في محطتين انتخابيتين تشريعيتين أي في انتخابات عام 2011 وانتخابات عام 2014 ويرأس حاليا لجنة المالية في البرلمان التي تُمنح وفق لوائح النظام الداخلي لمجلس النواب التونسي للمعارضة.

وعُرف الرحوي في الأشهر الأخيرة، بتوجيهه نقدا لاذعا للجبهة الشعبية وعدم تطورها وخاصة للناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمة الهمامي بتأكيده مرارا أن الهمامي بقي متكلسا ولم يتمكن بعد الثورة من تطوير خطابه السياسي الذي بقي حبيس زمن المعارضة قبل ثورة يناير 2011 وفق توصيفات الرحوي.

تشبث حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد بترشيح الرحوي للانتخابات الرئاسية
تشبث حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد بترشيح الرحوي للانتخابات الرئاسية

وأفادت مصادر مطلعة على مجريات وكواليس الجبهة الشعبية في لقاء مع “العرب” بأن حزب الوطنيين الديمقراطيين لن يغيّر في موعد 13 مايو المرتقب من مواقفه، مشددّة على أن التمسّك بهذا الخيار قد يدفع بالحزب المذكور إلى الانسحاب من الجبهة واختيار اصطفافات حزبية أخرى يخوض معها المحطات الانتخابية القادمة.

وعند الحديث عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، يذكر أنه بدوره يعاني من أزمة تفكّك، حيث انشقت عنه بعض القيادات التاريخية التي انضمت في الأشهر الأخيرة إلى الحزب اليساري “تونس إلى الأمام” الذي يقوده الوزير السابق عبيد البريكي ومن أبرز الأسماء المنشقة نذكر أرملة الشهيد شكري بلعيد بسمة الخلفاوي وكذلك عبدالمجيد بلعيد شقيق شكري بلعيد.

في هذا الصدد أكّدت نفس المصادر لـ”العرب” وجود بعض المشاورات بين حزب “تونس إلى الأمام” و”حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد” قصد تكوين ائتلاف انتخابي إن لم يتوصل الأخير إلى اتفاق مع مكونات الجبهة الشعبية.

وبالتزامن مع تصدع الخلافات داخل الجبهة الشعبية التي لعبت دورا مهما في صفوف المعارضة، خاصة عند الإطاحة بحكم حركة النهضة الإسلامية عام 2014، عقب الاغتيالات السياسية المذكورة، أظهرت كل استطلاعات الرأي الأخيرة تراجع شعبية هذا المكون اليساري والقومي وفسحه المجال لأحزاب معارضة أخرى منها أحزاب التيار الديمقراطي الذي يتزعمه الناشط السياسي محمّد عبو وكذلك الحزب الحر الدستوري المنحدر من المنظومة القديمة والذي تتزعمه المحامية عبير موسي.

ولم تنجح الجبهة الشعبية طيلة ست سنوات أي عقب اغتيال بلعيد والبراهمي في تحقيق حلم كان يراودها وهو تأسيس حزب يساري كبير يكون قادرا على اختراق النسيج المجتمعي وجر الأنصار وراءه لمنافسة حزب حركة النهضة الإسلامية أو الأحزاب الأخرى القوية والمحسوبة على المنظومة القديمة كنداء تونس أو حزب تحيا تونس الفتي الذي يتزعمه الآن رئيس الحكومة يوسف الشاهد.

وتشير كل الكواليس، إلى أن الجبهة الشعبية باتت في مأزق كبير قد يؤدي إلى القضاء على هذه التجربة، خاصة أن الخلافات لا تشمل فقط حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد بل حزب القطب الديمقراطي أيضا والذي عبّر عن انزعاجه من الوضع المتردي الذي آلت إليه الجبهة الشعبية.

الانتحار السياسي

حزب شكري بلعيد يهدد بالانسلاخ عن الجبهة
حزب شكري بلعيد يهدد بالانسلاخ عن الجبهة

قال رياض بن فضل المنسق العام لحزب القطب في تصريحات إعلامية سابقة إن حزبه قد يغادر الجبهة الشعبية إن بقيت على وضعها الحالي.

واعتبر بن فضل أن الجبهة تستوجب إصلاحا جذريا داعيا إلى التنسيق مع العائلة التقدمية واليسارية لخوض الانتخابات القادمة وذلك خلال انطلاق المؤتمر التأسيسي للقطب.

وتابع في هذا الإطار “نحن طرف فاعل في الجبهة ويجب أن تتغير بطريقة شبه فورية كما يجب أن تشهد إصلاحات عميقة لأن الجبهة ليست ملكا للأمناء العامين بل هي ملك للشعب التونسي”.

ويعتبر العديد من المراقبين أن الجبهة الشعبية أضاعت وقتا كثيرا في إدارة اختلافاتها الداخلية وأنها لن تكون قادرة حتى إن لم تنقسم على المنافسة في المحطات الانتخابية القادمة، خاصة أنها لم تتمكن إلى حد اللحظة من حسم القائمات الانتخابية التي ستقوم بترشيحها في الانتخابات التشريعية القادمة وذلك على عكس بقية الأحزاب الكبرى والتي تمكّنت من تحديد الملامح الكبرى لقائماتها قبل خمسة أشهر من الانتخابات ومنها حركة النهضة التي تعد الأكثر جاهزية من بين كل الأحزاب.

ورغم أن حمة الهمامي، لم يعلن ترشحه بصفة رسمية للانتخابات بقوله في أكثر من تصريح إعلامي إنه لم يؤكّد نواياه بعد وأن العمل الجبهوي يتطلب عملا جماعيا لا فرديا، إلا أن الجبهة قد تكون ضحية هذا التنافس المحموم على الرئاسية رغم إدراكها لصعوبة المنافسة على هذا المنصب.

بداية الانشقاق
بداية الانشقاق

وتؤكد العديد من المراجع السياسية في تونس، على أن مشكلة الجبهة الشعبية تنطبق على مختلف التكتلات والأحزاب اليسارية التي لم ترتق بعد إلى ممارسة العمل الديمقراطي داخل هياكلها الداخلية، فيما تجزم مواقف أخرى أن الجبهة الشعبية باتت بمثابة الذي يسير من تلقاء نفسه نحو الانتحار السياسي على اعتبار أنها تدرك أنها لا تملك أي حظوظ للفوز بالرئاسية ومنافسة أسماء أخرى كالرئيس الحالي الباجي قائد السبسي إن أعلن ترشحه أو رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد إن اختار بدوره خوض مغامرة السباق نحو قصر قرطاج (القصر الرئاسي).

وقصور اليسار التونسي عقب ثورة يناير 2011، رغم ما يمتلكه من رصيد نضالي كبير في عهدي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة أو من بعده زين العابدين بن علي، لا يقتصر فقط على الجبهة الشعبية، حيث إن بعض الأحزاب، ومنها حزب المسار الديمقراطي وهو أقدم حزب يساري تونسي (الحزب الشيوعي التونسي سابقا)، قد تفتتت بسبب أزمات متلاحقة خاصة عقب اختيار أمينه العام السابق ووزير الفلاحة الحالي سمير الطيب الاستقالة من الحزب والالتحاق بحزب تحيا تونس حديث النشأة.

وتتلخص أهم إشكالات اليسار التونسي في تركيزه بإطناب على ما هو أيديولوجي بدل الانغماس في الفعل السياسي، علاوة على بقاء قياداته في أبراج عاجية تقتصر على مخاطبة النخب بدل اختراق عموم فئات المجتمع وخاصة الكادحة منها، التي هي موضعها الطبيعي وموضع اهتمامها الفكري.

7