المضيّ قدما.. في الجحيم

يصاب السياسيون بالعمى كثيرا. تأخذهم العزة بالإثم، أو تغلب عليهم القناعات المسبقة. تتحوّل هذه القناعات إلى قوالب، والقوالب إلى حجر. والحجر لا بد أن يشجّ رأس من يعتقد أنه تفاحة حياة.
ماذا قالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عندما انكشفت هزيمة حزبها في الانتخابات البلدية؟ قالت “سنمضي قدما في تحقيق بريكست”. لعلها كانت تستعيد قول ونستون تشرشل الشهير “عندما تجد نفسك في الجحيم.. امض قدما”.
وجحيم تيريزا ماي أكثر من حقيقي بعد ثلاث هزائم متتالية في البرلمان، ورحلات لا معنى لها إلى أوروبا لطلب التأجيل، ومفاوضات استقال عنها وزيرها الخاص، ومحاولات مجوّفة للتوصل إلى تسوية مع حزب العمال ستكون بمثابة هدية مسمومة لكلا الطرفين. ولكن بما أن السيدة ماي تعتزم الاستقالة في جميع الأحوال، فإنه لن يهمها من بعد “أن تمضي قدما”، كيف سيتقلّب وارثو التركة في مقلاة الناخبين، أو كيف ستنتقل الفوضى إلى حرب أهلية دائمة داخل المجتمع وداخل “الحزبين الكبيرين” معا.
جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال، ذاق بنفسه جانبا من طعم الهزيمة عندما فقد حزبه 84 مقعدا، هو الذي كان يجب أن يجني مكسبا من هزيمة المحافظين
الانتخابات المحلية لا تعكس بالضرورة أصداء الولاءات السياسية للناخبين البريطانيين. ولكن قراءة أرقام النتائج تكاد تفصح عن شيء ما يميد من تحت الأقدام. كان التوقّع السائد هو أن الانتخابات البلدية سوف تردد صدى الانتخابات الإسبانية. فهناك تراجع “يمين الوسط”، ليزيد من حظوظ “اليمين المتطرف”. وهو ما كان يجب أن يعني أن تراجع حزب المحافظين سوف يصبّ في صالح حزب “استقلال بريطانيا”. ما حصل هو العكس تماما. خسر المحافظون 1330 مقعدا بلديا، كما خسر الاستقلاليون المعادون للاتحاد الأوروبي أكثر من ثلاثة أرباع مقاعدهم البلدية فلم يبق لهم إلا 31 مقعدا من أصل 176 مقعدا سابقا.
في المقابل حصد الليبراليون الديمقراطيون 704 مقاعد إضافية، لكي يضاعفوا حصتهم السابقة، بينما فاز معهم حزب الخضر بـ194 مقعدا إضافيا. والأخير كان لا يملك في الانتخابات البلدية السابقة أكثر من 71 مقعدا، فبات يمتلك اليوم 265 مقعدا. وكلا هذين الحزبين يؤيدان البقاء في الاتحاد الأوروبي. زعيم الليبراليين الديمقراطيين فينيس كابل قال بكل بساطة “كل صوت حصلنا عليه، كان يقول: أوفقوا بريكست”.
البريطانيون ليسوا إسبانا. ربما كان هذا هو الاستنتاج الأهم. ولئن كانت الانقسامات داخل حزب المحافظين عاملا من عوامل الهزيمة، إلا أن البريطانيين يصوّتون لأحزابهم كما “يصوتون” لنوادي كرة القدم التي يشجعونها. بمعنى أنهم لا يتخلّون عن النادي عندما يخسر مباراة، ولا حتى لو انحدر إلى أسفل سلّم الدوري. ولكن هناك ما حصل لكي يقلب الطاولة بتلك الطريقة.
اليوم، أكثر بكثير مما كان الحال عام 2016 عندما جرى التصويت على الخروج، يعرف البريطانيون بدرجة أوضح ما هو البريكست. لقد قيل لهم إن بريطانيا لن تعود بحاجة إلى أن تدفع مبالغ طائلة للاتحاد الأوروبي مقابل عضويتها فيه. ثم اكتشفوا أن بريطانيا ستظل تدفع ذات المبالغ، إن لم يكن أكثر منها، طالما أرادت أن تصدّر إلى الاتحاد الأوروبي بضائعها وخدماتها.
وقيل لهم إن الهجرة إلى بريطانيا من داخل الاتحاد الأوروبي سوف يُوضع حد لها، قبل أن يكتشفوا أن المهاجرين الأوروبيين، لن يُطردوا، ولن يخسروا حقوقهم، ولن تُغلق الأبواب أمام غيرهم.
وقيل لهم إن بريطانيا تريد أن تكون حرة في تشريعاتها، قبل أن يكتشفوا أن سلامها الداخلي رهن باتفاق “الجمعة العظيمة” الذي يقضي ببقاء الحدود بين الأيرلنديتين مفتوحة. وإن الـ”باك ستوب” -أو “شبكة الأمان”، حسب ترجمة غير صحيحة- ليس في الحقيقة حلا.
وقيل لهم إن بريطانيا سوف تكون قادرة على عقد اتفاقات تجارية مع كل أرجاء العالم من دون الحاجة إلى المرور بالاتحاد الأوروبي، قبل أن يكتشفوا أن تلك الاتفاقات يمكن أن تتراوح بين مزاج مضطرب للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبين توازنات مصالح سوف تظل تغلب قوة السوق الأوروبية على قوة العلاقة مع المستعمر القديم.
لقد بُني البريكست على الكثير من الأوهام والانفعالات المتطرفة التي ساقها سياسيون من قبيل بوريس جونسون، كانوا بالأحرى يتنافسون مع ماي على الزعامة، وليس لخدمة المصالح العامة. فإذا كان لديك يمين متطرف مثل هذا، فما حاجتك إلى أي يمين متطرف آخر؟
الانتخابات المحلية لا تعكس بالضرورة أصداء الولاءات السياسية للناخبين البريطانيين. ولكن قراءة أرقام النتائج تكاد تفصح عن شيء ما يميد من تحت الأقدام
جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال، ذاق بنفسه جانبا من طعم الهزيمة عندما فقد حزبه 84 مقعدا، هو الذي كان يجب أن يجني مكسبا من هزيمة المحافظين. السبب بسيط. هو أنه تحوّل إلى “بريكستير” وأظهر استعدادا لقبول تسوية مع المحافظين. مارغريت بيكيت نائبة زعيم حزب العمال السابقة، قالت “البريكست هو مشروع المحافظين. وهو أزمتهم. فلماذا يجب أن نحلها لهم؟ الخيار الوحيد الصحيح هو إجراء استفتاء جديد”.
كوربن لم يُصغ. ظن أنه يمكن أن يجمع المجد من أطرافه. فيدافع عن الوظائف للبريطانيين، ويلبّي رغبة الناخبين في استفتاء 2016. هذه المعادلة لم تمنح حزبه ما كان يأمل به. فإذا ما قرر “أن يمضي قدما” مع ماي، فإن الطرف الآخر من الجحيم سوف يكون بانتظاره، عندما يتخلّى عنه قسط كبير من قاعدته الحزبية، وجلّه اليوم من الشباب. أيان دانكان سميث زعيم حزب المحافظين السابق قال القول المناسب للتي تريد “أن تمضي قدما”: أمض. وطالب بإقالتها فورا.
في حالات كثيرة لا يمكن مطابقة الانتخابات المحلية على انتخابات برلمانية. ولكن الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن حصة المحافظين من نسب التصويت تبلغ اليوم 28 بالمئة، وهي ذاتها النسبة التي يبلغها التصويت للعمال، أي بما يجمع 56 بالمئة. النسبة المألوفة “للحزبين الكبيرين” كانت تصل إلى 80 بالمئة. وها هنا الأرض تميد. لا يجب الاستهانة بذكاء الناخبين، ولا بقدرتهم على الخروج من الجحيم بالعودة إلى الخلف، بدلا من المضي قدما.