فلسطينيون يراقصون ألسنة النار لأجل زادهم من الفريكة

قديما درجت الأسرة على تأمين مؤونتها السنوية بحسب المواسم؛ ففي الشتاء تؤمن زيت الزيتون، وتخلل الخضروات، كما تعد الدبس من العنب والرمان والتمر، وتعد الدقيق لطهي الخبز. ومع تطور الحياة وتوفر المواد الغذائية الجاهزة تخلصت بعض العائلات من هذه العادة، لكن أغلب العائلات الفلسطينية ما زالت تصر على تأمين زادها من الفريكة التي ما زال أهل جنين يعدّونها بطريقة تقليدية.
جنين (الضفة الغربية) - يمضي الفلسطيني مأمون مسعود (50 عاما)، يومه بين ألسنة اللهب والدخان الناتج عن حرق سنابل القمح الطازجة لإنتاج “الفريكة” التي تشكل مصدر رزق له ولعائلته.
وتعد الفريكة واحدة من الأكلات الفلسطينية الشعبية، تطبخ مع قطع اللحم أو الدجاج، أو تُطهى جيداً للحساء، ويكرّم بها الضيف، كما تقدّم في جميع المناسبات، من أفراح وأتراح، وإنتاجها مهنة تراثية تقليدية.
وتعتبر شوربة الفريكة أحد أهم الأطباق اليومية على المائدة الفلسطينية خاصة في شهر رمضان حيث تشارك الأطباق الرمضانية التقليدية المعروفة، وتقدم في بعض المطاعم كوجبة رئيسية مثل الأرز، كما يؤكل المنتج أيضا طريا قبل التجفيف دون طهي، ويباع في المحال والعربات.
على بيدر يتوسط إحدى بلدات الجنوب من مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، يمضي مسعود يومه برفقة نحو 20 عاملا يسمون أيضا “الفراكة” لإنتاج الغذاء الفلسطيني اللذيذ. ومن الصعب التعرف على ملامح وجوه العمال التي غطاها “الشحبار/السناج” الأسود أثناء العمل، إلا أنهم يبدون سعداء.
يقول رائد زغلول (46 عاما) “المثل يقول خبي (إخْفِ) قرشك الأبيض ليومك الأسود، هنا العكس، خبي قرشك الأسود ليومك الأبيض”، في إشارة إلى الحالة التي يبدو فيها العمال نتيجة العمل المتواصل وسط النيران.
رحلة الفريكة
حول خطوات ومراحل إنتاج الفريكة، يقول الفراكة إنهم ينتظرون أن تبدأ سنابل القمح بالنضوج، وقبل أن تنضج بشكل كامل يتم حصادها، ومن ثم نقلها عبر شاحنات إلى البيدر، ثم يتم توزيعها على شكل أكوام صغيرة من السنابل قبل حرقها باستخدام “شاروخ”، وهو على شكل ماسورة يخرج من فوهتها اللهب، ومتصلة بإسطوانة غاز، ويتم تقليب السنابل خلال عملية الحرق، ومن ثم فرزها أو درسها، لتكون جاهزة للبيع.
ويتفق كل الفراكة على أنه ليست كل أنواع القمح جيدة للفريكة، إذ يجب اختيار أنواع تمتلئ سنابلها بحبات القمح، وأن يكون حجمها كبيرا، كقمح “العنبر”.
ويبدأ العمل في إنتاج الفريكة -حسب قول مسعود- منذ ساعات الصباح الأولى، وقد يستغرق حتى عصر أو مساء اليوم ذاته، على سفوح التلال المحيطة التي يستدل عليها من الدخان المتطاير.
وتحتاج صناعة الفريكة إلى معرفة وخبرة بطريقة الحرق (الشواء) التي تتم بواسطة ألسنة لهب منبعثة من خراطيم موصلة بعبوات غاز.
يقول مسعود “منذ عدة سنوات أعمل في صناعة الفريكة، وباتت لدي خبرة جيدة”، مشيرا إلى أنها تصنع بالطريقة القديمة التقليدية “فمنذ الصباح نبدأ بنثر سنابل القمح غير الناضج على البيدر تحت أشعة الشمس، وتترك لنحو ساعتين، قبل البدء بتقليبها ثم شوائها بالنيران”.
ويعمل الفريق كخلية نحل، فبينما كان مسعود يسلط النار على سنابل القمح، يعمل الآخرون على تقليبها لكي تتم عملية الشواء بشكل جيد وموزع. ويستخدم العمال أدواتا زراعية بسيطة بدائية كـ”الشاعوب” (أداة ذات مقبض طويل وشوكات طويلة ورقيقة ومدببة ومتباعدة).
ويشير مسعود إلى أن مهنة صناعة الفريكة واحدة من أقدم المهن في محافظة جنين، التي تقع على أطراف سهل مرج ابن عامر، وتزرع سهولها شتاء بالحبوب وخاصة القمح.
أما وليد الخالدي (50 عاما) من قرية دير غزالة، فيقول “تعلمنا الفريكة من أهل الخليل، ولكنهم كانوا يستخدمون طرقا بدائية، وينتجون كميات قليلة، ونحن طوّرنا آلية العمل، واستخدمنا التكنولوجيا في الحصاد وقمنا بإنجاز بيدر أرضيته من الباطون لضمان عدم اختلاط الفريكة بالتراب والحصى، وبدأنا نستخدم نار الغاز للمساعدة على حرق السنابل”.
وحسب الخالدي، فإن عملية إعداد الفريكة قطعت شوطا كبيرا. ويضيف قائلا “قام أحد أبناء القرية بعمل فرن لتجفيف الفريكة الخضراء وغربلتها، وهذا يختصر الكثير من الوقت والجهد، ويضمن سرعة في التسويق لكبار التجار الذين يجمعون الفريكة لبيعها بالجملة والتجزئة”.
شوربة الفريكة فاتحة وجبة شهية في رمضان

شوربة الفريكة من المطبخ الفلسطيني أكلة تقليدية لذيذة، خاصة مع اقتراب شهر رمضان، حيث تقدم ساخنة مع وجبة الإفطار، وهي مفيدة وصحية، وتفتح شهية الصائم على الأكل.
ويوضع اللحم -لحم الضأن أو الدجاج- في قدر على نار هادئة ويغمر بالماء مع رشة من البهارات المشكلة وورق الغار وحبات الفلفل الأسود وحبات الهيل. خلال استواء اللحم تغسل الفريكة جيدا دون نقع بعد أن تنقى من الشوائب وتضاف حبة البصل المفرومة إلى الفريكة وتحرك جيدا، مع إضافة زيت الزيتون أو السمن البلدي في قدر آخر، ويقلب الخليط جيدا على النار ثم يضاف مرق اللحم حتى يغمر الفريك دون الإكثار من البهارات فمذاق الفريكة لذيذ لا يحتاج إلى الكثير من البهارات. في الأثناء نضع القليل من السمن البلدي وزيتا لقلي اللوز والصنوبر ونضع الخليط جانبا.
وبعد أن تستوي الشوربة في مدة تقارب نصف الساعة، نضع الفريكة في طبق فوقها قطع اللحم ونزينها باللوز والصنوبر، ونضع بجانبها اللبن الزبادي وحبات الزيتون الأخضر والبصل الأخضر لتكون فاتحة شهية لوجبة رئيسية وخاصة في رمضان.
وتطبخ شوربة الفريكة أيضا في بلدان عربية أخرى مثل بلاد الشام والأردن والعراق وبلدان شمال المغرب العربي وإن اختلفت طريقة طبخها، فهو اختلاف بسيط لا يفقدها شهيتها.
الشاب علي زكارنة الذي يعمل في فرن التجفيف، يقول “هذا الفرن تم عمله خصيصا لموسم الفريكة، ونحن نستقبل الفريكة الخضراء ونضعها في الفرن، وهو عبارة عن غرفتين، أرضيتهما من حديد مخرّم، يخرج منها هواء ساخن يزيد من سرعة تجفيف الفريكة، وتقوم مجموعة من العمال بتقليبها لضمان وصول الهواء الساخن إلى جميع الكمية، وتستغرق هذه العملية من 8 ساعات إلى 12 ساعة للكمية الواحدة”.
ويشير إلى أن عمل الفرن يعتمد على موسم الفريكة فقط، وهو يوفّر فرصة عمل لمجموعة من الشبان، ويسهّل على المزارعين عناء تجفيف الفريكة بطريقة تقليدية، ويساعدهم على تسويق منتجاتهم لدى التجار. وعادة ما يستمر موسم الفريكة نحو 40 يوماً من كل عام بين قطف وشواء، في فترة تمتد من منتصف شهر أبريل إلى أواخر مايو من كل عام.
وتستخدم آلات خاصة تجرها جرارات زراعية لفصل حبوب الفريكة عن قشورها، قبل نقلها إلى مصانع التنقية والتجفيف والتغليف.
منير سليمان (25 عاما) يشرف على نحو 20 عاملا في صناعة الفريكة، يقول “منذ نحو 30 عاما يعمل والدي في صناعة الفريكة، وقد ورثها عن جدي”، لافتا إلى أن دخل عائلته قائم على صناعة الفريكة وإنتاج زيت الزيتون، حيث ينتج والده نحو 500 طن (الطن ألف كيلوغرام) من الفريكة سنويا.
ويعمل سليمان على تسويق إنتاج البيدر الخاص به من الفريكة لمصانع محلية تعمل على تجفيف وتنقية المنتج وتعبئته وبيعه في الأسواق الفلسطينية.
يقول سليمان “تشارك في هذا الموسم كل طبقات المجتمع، العامل، والموظف، والعسكري، والطالب”.
رزق الكل
من بين العمال موظف يبلغ من العمر نحو 33 عاما، فضل عدم الإفصاح عن هويته، يقول “في كل عام أحصل على إجازة من عملي الرسمي وأمضيها بالعمل في موسم الفريكة”.
ويضيف “تشكل دخلا مساعدا للموظف والطالب” حيث يحصل العامل على 56 دولارا كأجرة يومية.
محمود زكارنة طالب حقوق، ويعمل على إشعال النار خلال عملية حرق الفريكة، ضمن فرقة الخالدي. يقول والعرق يتصبب من وجهه “أنتظر هذا الموسم لجمع أكبر قدر من المال، لتوفير قسطي الجامعي ومصاريفي الشخصية. موسم الفريكة فرصة مناسبة لي كوني أتقاضى مبلغا ممتازا، الكثير من الشباب يعملون في هذا الموسم، إضافة إلى بعض الموظفين أيام عطلهم الأسبوعية أو خلال الإجازات”.
يقول عبدالكريم خليفة (22 عاما) وهو يقلب القمح “أعمل منذ نحو ست سنوات بالفريكة، التي تعد فرصة لكسب الرزق في مثل هذا العام من كل سنة، أنا طالب في الجامعة، أعمل في هذا الموسم عدة أيام، وأعشق هذه المهنة”.
التجار الذين يشترون الفريكة يبيعونها بعد تجفيفها وتغليفها، وهذا مجدٍ بالنسبة لهم، حتى أن بعض التجار يصدّرون الفريكة إلى الخارج، وهذا ما يفتح آفاقا لتحسين تسويق الإنتاج، حسب الخالدي.
ويحذّر الفراكة من الفريكة المغشوشة في الأسواق، مشيرين إلى أن هناك من يقوم بإضافة أصباغ إلى القمح المجروش ليعتقد الناس أنه فريكة، وهذا ما يجعل الكثير من المواطنين يسعون للحصول على الفريكة الخضراء من مصادر موثوقة.
ويسهل غش الكثير من المواطنين خاصة الذين لم يتذوقوا طعم الفريكة التي يتم إعدادها باستخدام النار في البيدر، وتترك سرا خفيا في الطعم، فلا يستطيعون معرفة جودتها، أما كبار السن فيحرصون على أن تكون الفريكة “بلدية”، كأنهم يتذوقون طعم شوائها ويعيشون متعة ذكريات عاشوها وطقوس استمتعوا بها.