الدين والأخلاق: الائتمانية طريق الإنسان لمصالحة العقل مع الإيمان

ظلت مسألة الربط بين الأخلاق والدين في الفقه الإسلامي منذ قرون من أعقد المسائل التي لم يتفق بشأنها العلماء والفقهاء والمفكرون، وذلك لعدة اعتبارات، يبقى من أهمها أن الاشتغال على الحقل الأخلاقي يعتبر حديثا في مجال الدراسات الإسلامية الذي هيمنت عليه منذ النشأة مسائل فقهية صرفة، لذلك لم تتمكن الدراسات الأخلاقية من فرض نفسها كمجال مستقل داخل فضاء العلوم الإسلامية. لكن في العقود الأخيرة، ظهرت بوادر تفكير فلسفي عربي توغلت في هذه المسألة بل ونظّرت لعدة مفاهيم لتحويل المسألة إلى طرح عقلي يمكن الخوض فيه وتكييفه مع الواقع، وخاصة عبر مفهوم الائتمانية الأخلاقية، الذي لا يكون إلا عبر تجديد ديني، يجعل من الإنسان عبر توظيف فطرته يصالح بين العقل والإيمان. ومن أهم المفكرين الذين اشتغلوا على هذا الفكر الائتماني المفكر المغربي، طه عبدالرحمان.
الرباط- طيلة عقود ظل الفقهاء والعلماء والمفكرون في العالم الإسلامي متشبثين بضرورة تحييد المسألة الأخلاقية عن التفكير أو جعلها مبحثا علميا يعتمد على العقل. ويستدل هؤلاء بأن الحقل الأخلاقي لا يمكن تناوله خارج أطر النطاق الشرعي أي العلوم الإسلامية التقليدية، فظل هذا الموضوع وهو من أهم الحاجات الملحة في حياة الشعوب متكلسا دون أن تتم عصرنته فكريا.
وتعددت التصورات والرؤى بشأن هذا المبحث المهم، كما تنوعت المواقف بتعدد التيارات الفكرية والرؤى الفلسفية، فمن الباحثين من رأى وجوب حصرها في ما هو فقهي صرف ومنهم من يعتقد بضرورة تغييب الأصل الفقهي وإعمال العقل عند الحديث عن الأخلاق، ومنهم من فصل بينهما، مبتدعا ومبتكرا مفاهيم يمكن لها أن تصالح الفرد بين عقله وإيمانه الفطري دون المساس بروح وجوهر الأصل الديني لكن مع وجوب تطويره.
ويعتبر الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبدالرحمان، من أهم المفكرين المعاصرين الذين خصصوا جزءا من البحوث والدراسات الفلسفية، للعلاقة بين الأخلاق والدين، ليستنتج ضرورة الحاجة الملحة إلى مفهوم الأخلاق الائتمانية.
وفي هذا الصدد، سلط طه عبدالرحمان، الأربعاء بالرباط، الضوء على مفهوم الائتمانية الذي يدل على أن الإنسان مؤتمن على صلاح الحياة في العالم، من خلال القيم الفطرية الموروثة.
وتناول المفكر، في محاضرة احتضنتها أكاديمية المملكة، بعنوان “العدالة العالمية والأخلاق الائتمانية” مفاهيم تنبني على الفكر الائتماني وترتكز على التجديد الديني. وركز على ضرورة تجديد الدين حتى يتحمل همّ الواقع، وكذلك ضرورة تخليق الحداثة، مسجلا الحاجة في السياق الراهن إلى إعمال مبدأ التزكية، “التي تقضي بإخراج الإنسان من امتلاك الأشياء إلى الائتمان عليها”.
وبعدما أشار إلى تفاوت الناس في معارج التزكية ومراقيها، شدد صاحب الكتاب الجديد “ثغور المرابطة” على كون هذه النظرية التزكوية، في معرض تعاطيها مع حياة الإنسان، تسعى لإصلاح قدره الائتماني لا الامتلاكي، مؤكدا أن “النظرية الائتمانية تنبني على مسلمة منهجية تنص على أن الإيمان يعقل كما العلم”.
وفي معرض تعاطيه مع فكرة حقوق الإنسان، أشار طه عبدالرحمان إلى أرجحية البعد الأخلاقي في حقوق الإنسان وأسبقيته على الأعراف الدولية والقرارات القانونية، مستشهدا بالفيلسوف الألماني توماس بوغي، الذي أكد أن الغاية من صياغة القوانين تتمثل قبلا في صون الحقوق، من خلال خصائص تعبر عن هموم أخلاقية أولية، هموم تتجشمها الكائنات البشرية عبر وضع أخلاقي خاص بها.
وأضاف أن قول بوغي بأرجحية حقوق الإنسان على القوانين الوضعية حالة ميثاقية في عالم القيم، امتدادا للتعاطي مع الأصول التي تضمنها الميثاق الإشهادي الأول، داعيا إلى لزوم الفطرة لأن صلاح الإنسان من لزومها، ولكونها غير الغريزة التي تحمل الإنسان على طلب البقاء، ولأنها توجه الدوافع بما يهذبها.
ويسعى مفهوم الائتمان عند عبدالرحمان إلى إعادة ترسيخ الفلسفة العربية الإسلامية بناء على الرسالة الأخلاقية التي يرى أنها محورية وذات مكانة مهمة في النظرة الكونية الإسلامية كما يتجسد ذلك في القرآن الكريم والسنّة وتعاليمها، وفي أصول الفقه الإسلامي أيضا.
ويتشبث المفكر المغربي من خلال سلسلة من الأعمال انطلقت منذ سبعينات القرن العشرين بضرورة مفهوم الائتمانية كنسق معرفي إبداعي ابستمولوجي من شأنه ردّ الاعتبار للعلوم الإسلامية والتفاعل النقدي مع الحداثة، بهدف تطبيق هذه الاتجاهات الإبداعية في مجالات أخرى تشمل العلوم الاجتماعية والعلوم الصحيحة.
وطه عبدالرحمان هو مفكر حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون، له مؤلفات كثيرة من بينها، العمل الديني وتجديد العقل، وسؤال العنف، وثغور المرابطة.
وتأتي كل هذه المحاولات الفلسفية لتطوير العلاقة بين الأخلاق والعلوم الإسلامية، عقب جدل تاريخي عقيم ربط المسألة بما يعرف بالآداب الشرعية في العالم الإسلامي، وهذه الآداب هي صميم الأحكام الفقهية، حيث كان مصطلح الشريعة يتسع لعلوم العقيدة والأخلاق والفقه، لكنه أضحى مرادفا للفقه في ما بعد، إذ اتسعَ مفهوم الفقه ليستوعبَ كلّ علوم الدين، حتى اضمحلت دراسة علوم الدين فسلفيا وفكريا وأصبح محورها الفقهَ وما تتطلبه مقدمات دراسته وفهمه.
وشهدت المحاضرة، التي عقدت بالرباط، حضور العديد من المفكرين الداعين إلى وجوب تجديد الفكر الديني وجعله متناسقا مع تطورات الواقع بطريقة تجعله صالحا لكل زمان ومكان، عبر طرح كل الملفات الدينية والفقيهة قيد الدرس والنقاش والتفكير وجعلها تخرج من دواميس الفقه الصرف.
واعتبر أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة، عبدالجليل الحجمري، أن طه عبدالرحمان من ضمن الأساتذة المبرزين، وهو باحث أكاديمي متمرس صرف من عمره ثلاثة عقود في التدريس والتأليف، منوها بكفاءته وإنتاجه الفكري الخصيب “الذي يعد مفتاح العقول والأفئدة”.
وأكد الحجمري في هذا السياق أن تمرس عبدالرحمان جعله مفكرا ومثقفا مسؤولا، وهو فيلسوف مهموم بقضايا عصره أسهم في إجابة الفكر العربي الإسلامي عن إشكالات عصره من منظور فلسفي.
المحاولات الفلسفية تأتي لتطوير العلاقة بين الأخلاق والعلوم الإسلامية، عقب جدل تاريخي عقيم ربط المسألة بما يعرف بالآداب الشرعية في العالم الإسلامي، وهذه الآداب هي صميم الأحكام الفقهية
كما عدّد أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة فضائل الكاتب، الذي أرسى منطلق بناء وتوجهات أخلاقية وإيمانية وعلمية، مشيرا إلى أن الفيلسوف طه عبدالرحمان في مشروعه الفكري منشغل بهموم شتى، أكثرها إلحاحا اجتهاده في بعث القوة المفهومية والقوة الاستدلالية للفكر العربي والإسلامي.
وأوضح الحجمري أن مشروعه يتمثل في بناء فلسفة إسلامية الأصل تروم تجديد الأمة من خلال تجديد الإنسان، من منطلق الروح، مشددا على كون عبدالرحمان عمل على بلورة جواب عربي لإشكالات عربية، من خلال إبداع فكر فلسفي إسلامي مستقل بذاته، يرسي مفهوم العمل الأخلاقي من خلال قراءة معاصرة للقرآن الكريم.
وأضاف أن صاحب كتاب “سؤال الأخلاق، مساهمة النقد الأخلاقي للحداثة العربية” ابتدع فلسفة إسلامية خالصة، سعت لاسترجاع القدرة إلى الذات، مع استئناف العطاء لغويا وعقديا ومعرفيا، من خلال التمكن من آليات الإنتاج وتحصيل القدرة على إيجاد البديل.
وخلص إلى كون طه عبدالرحمان من أهل الدراية والممارسة لفن المناظرة الإسلامية، مع تغليب الحوار والحق الفلسفي في الاختلاف، لافتا إلى أن الكاتب المثقف العملي الذي يؤكد إيمانه بمسؤولية المؤتمن الناهض بالعمران، أكد على الحاجة إلى التحرر الثقافي من التبعية، حتى تستعيد الأمة القدرة على استئناف العطاء الحضاري بين الأمم.