شباب البصرة يعبرون على جسر النفط إلى آفة المخدرات

اكتظاظ السجون بالمستهلكين للمخدرات لعدم وجود مراكز لعلاجهم في مدينة البصرة العراقية التي يمثل إنتاجها من النفط 90 في المئة من إيرادات الدولة وشبابها يعاني من البطالة.
الأربعاء 2019/04/10
المخدرات لذة قاتلة

من مدينة يشبهها العرب بفينيسا الشرق الأوسط، تحولت البصرة الغنية بالنفط إلى مستنقع للشباب المدمنين على مختلف أنواع المخدرات وللمهربين والمساجين، الشباب الذين كان يفترض أن ينعموا بالثروة يعانون من الفراغ والبطالة وغياب وسائل الترفيه، وأصبحوا مدمنين في بلد لا يحتوي على مراكز تأهيل.

البصرة (العراق) - تكافح مدينة البصرة في جنوب العراق مشكلة انتشار المخدرات بشكل متزايد مما تسبب في اكتظاظ السجون بما يفوق طاقتها وإرهاق موارد الشرطة، وذلك بعد أشهر فحسب من احتجاجات عنيفة اعتراضا على سوء الخدمات المحلية.

وبلغ الضغط على نظام السجون في البصرة حد الاختناق، ففي أحد الأيام في الآونة الأخيرة شاهد مراسلو رويترز في مركز للشرطة حوالي 150 رجلا جالسين على الأرض حليقي الرؤوس وقد انحشروا في زنزانتين صغيرتين.

وخلال السنة الأخيرة ازدادت بشدة أعداد المقبوض عليهم من متعاطي المخدرات وتجارها، الأمر الذي زاد الضغط على السجون والشرطة، فيما يشار إلى أن مشكلات الموارد المحلية التي كانت سببا في الاحتجاجات في البصرة الصيف الماضي لم تختف.

وقال الرائد شاكر عزيز من قسم مكافحة المخدرات في شرطة البصرة “انتشار المخدرات بسبب البطالة.. شبابنا تائهون، ليس لديهم مال، قلقون في الحياة لذلك يهربون إلى المخدرات”.

ومن الأسباب المهمة لانحدار الشباب نحو هذه الآفة، غياب الحاضنات الترفيهية والملاعب الرياضية والنوادي الثقافية والاجتماعية التي تملأ وقت الفراغ.

وأضاف عزيز متحدثا عن زنزانات الحبس “يقول مدير السجن إن  تسعين بالمئــة من المساجين هم من متعاطــي أو تجار مخدرات”.

60 شخصا يقبض عليهم كل أسبوع بتهمة حيازة أو استهلاك أو تهريب المخدرات

ويسلط الوضع في السجون، الذي يفاقمه عدم وجود مراكز لعلاج المدمنين، الضوء على التناقض بين الثروة التي تنتجها محافظة البصرة، إذ يمثل إنتاجها من النفط 90 بالمئة من إيرادات الدولة، وسوء الأوضاع المعيشية فيها.

وكانت مدينة البصرة التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة تشتهر في فترة من الفترات بأنها فنيسيا الشرق، أما الآن فهي تفتقر إلى المياه النقية، ولا تكفي الكهرباء فيها لتشغيل أجهزة تكييف الهواء خلال الحر القائظ في فصل الصيف، وتنتشر البطالة في المدينة خاصة بين الشبان.

وخرج الآلاف في احتجاجات على الأوضاع والبطالة والفساد في الصيف الماضي عندما زاد ارتفاع درجات الحرارة الأمور سوءا ودخل المئات المستشفيات للعلاج بعد شرب مياه ملوثة. وأشعل المحتجون النار في مبان حكومية ومقار تنظيمات سياسية واشتبكوا مع الشرطة.

ويخشى المسؤولون أن تتكرر أحداث العنف هذا العام، ورغم أن مشكلة المخدرات تمثل مصدر قلق في عدة مناطق بالعراق، إلا أن البصرة تعاني منها أكثر من غيرها.

سجن أم مركز تأهيل
سجن أم مركز تأهيل

ولا تزال البصرة تعاني رغم إعلان العراق النصر في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في 2017.

وقال عزيز إن عدد الموقوفين تزايد سنويا منذ 2015، مضيفا أنه بحلول شهر مارس بلغت حصيلة المخدرات التي ضبطتها الشرطة هذا العام 15 كيلوغراما أي نصف الكمية التي تم ضبطها في العام الماضي كله.

وأضاف أن عدد المقبوض عليهم في جرائم المخدرات يتراوح بين 50 و60 شخصا كل أسبوع بالمقارنة مع ألف شخص في العام الماضي كله.

وقال العقيد باسم غانم مسؤول الإعلام في شرطة البصرة، إن أكثر أنواع المخدرات شيوعا هو مخدر الميتامفيتامين المعروف باسم كريستال ميث والمعروف محليا بالكريستال والذي أخذ اسمه من شكل حبيباته التي تشبه الكريستال المهشم، ويعد من أشد أنواع المخدرات فتكا بالجهاز العصبي.

ومن الأنواع الشائعة أيضا الأفيون ويطلق عليه في العراق الترياق وكذلك الحشيش والأقراص المخدرة.

وتقول شرطة البصرة إن 97 بالمئة من متعاطي المخدرات الذين تم توقيفهم في 2018 عاطلون عن العمل، وأكثر من ثلثيهم في سن الخامسة والعشرين أو أصغر سنا.

إيران تقتل العراقيين ببطء

يدفعون ثمن وقوعهم في مخالب المافيات غاليا
يدفعون ثمن وقوعهم في مخالب المافيات غاليا

يؤكد مسؤولون أمنيون أن تنامي تجارة المخدرات وتعاطيها في العراق يزدهر في المحافظات التي لها حدود مشتركة مع إيران، وهذه المحافظات هي واسط والبصرة وميسان وديالى، بالإضافة إلى السليمانية في إقليم كردستان.

وقال العقيد إسماعيل المالكي الذي يرأس قسم مكافحة المخدرات في شرطة البصرة، إن كل المخدرات تأتي من خارج البلاد.

ونفت طهران ذلك، لكن مسؤولين مازالوا يشيرون بأصابع الاتهام بشكل غير مباشر إلى إيران مستخدمين عبارات مثل “دول الجوار”.

وأعلن رشيد فليح قائد شرطة البصرة في نوفمبر الماضي، أن 80 بالمئة من المخدرات التي تدخل إلى المحافظة مصدرها إيران، وأن النسبة المتبقية تأتي من دول العالم الأخرى.

وأشار مكتب مكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة، إلى وجود ممرين رئيسيين لدخول المخدرات إلى العراق، والذي تحوّل إلى مخزن تصدير تستخدمه مافيات التهريب، مستفيدة من ثغرات واسعة في حدود مفتوحة وغير محروسة مع إيران.

ويستخدم المهربون الحدود الشرقية التي تربط العراق بإيران مستغلين طول الشريط الحدودي الذي يزيد عن 1200 كيلومتر، والصعوبة التي تحول دون قدرة حرس الحدود على ضبط هذا الشريط الحدودي الطويل، إضافة إلى ضعف إمكانية الأجهزة الأمنية وافتقارها للمعدات اللازمة لكشف المخدرات، أما الممر الثاني الذي تستخدمه مافيا المخدرات التي تتبع دول وسط آسيا، فيستهدف أوروبا الشرقية التي من خلالها تصل إلى شمال العراق عن طريق تركيا، فضلا عن تهريبها عن طريق الموانئ العراقية المطلة على الخليج العربي، والتي تصل إلى محافظة البصرة الجنوبية على وجه الخصوص.

وتحدث قاض متخصص وأحد المشرفين على تقرير صادر عن إعلام القضاء، عن دخول المخدرات جوا عن طريق لبنان، وبرا عن طريق مشاحيف الأهوار (الزوارق الصغيرة)، في حين لم تسلم نعوش القتلى والموتى من استخدامها وسيلة للمرور داخل البلاد.

80 بالمئة من المخدرات التي تدخل إلى المحافظة مصدرها إيران، وأن النسبة المتبقية تأتي من دول العالم الأخرى

ولفت إلى أن “أغلب تجار المخدرات هم من أصحاب النفوذ والعلاقات، ويمتلكون دعما من قوات غير منضبطة تابعة إلى جهات نافذة، وبهذه التجهيزات لا يمكن تنفيذ أغلب أوامر القبض لاسيما الصادرة منها على التجار”.

و في السابق كان العراق يفرض عقوبة الإعدام على متعاطي المخدرات وتجارها، لكنه سن قانونا جديدا في 2017 يمكن بمقتضاه أن يأمر القضاة بعلاج المتعاطين في مراكز التأهيل أو الحكم بسجنهم فترة تصل إلى ثلاث سنوات.

وبحسب التقرير الصادر عن إعلام القضاء والذي نشر الثلاثاء، فإنه “بالرغم من الجهود القضائية الاستثنائية في هذا الملف الخطير، إلا أن جرائم المخدرات في ازدياد بسبب غياب الردع وقلة الوعي وضعف إمكانيات الأجهزة القائمة على مكافحتها”.

وعن قانون مكافحتها أشار القاضي المتخصص إلى أن “قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017 أحد أهم أسباب انتشار المخدرات في الآونة الأخيرة، وبصدوره أصبحت اغلب الجرائم من تجارة وحيازة وتعاطي المخدرات جنحة لا تتجاوز عقوبتها الخمس سنوات”، لافتا إلى أن “هذه العقوبات لا تتناسب ومثل هذه الجرائم، ولا توفر الردع المطلوب تحقيقه في المجتمع″.

أما عن قلة الوعي المجتمعي فقد بيّن القاضي أن “فئات المجتمع عانت ما عانته من انتشار للأمية في الكثير من مناطق البلاد، فأغلب العائلات لا تعرف شكل هذه السموم أو تأثيراتها السلبية، وهنا يجب التنبيه إلى دور الإعلام الضعيف في نشر الوعي، وتحذير المجتمع من مخاطر المخدرات وآثارها”، مؤكدا أن “الغالبية العظمى من المتعاطين هم بسطاء الحال ومن الطبقات تحت المتوسطة، بل بعضهم من المتسولين لذا يستدرجون ليكونوا مروجين جيدين لهذه المادة”.

التدخين مجانا بداية الورطة

داخل مجمع للتدريب على مشارف محافظة البصرة أعادت الشرطة تجهيز مبنى كمركز مؤقت للتأهيل لكي يستخدمه المتعاطون الذين اقترب إطلاق سراحهم.

ويعيش نحو 40 رجلا في ظروف مريحة نسبيا، إذ ينامون ستة في كل غرفة ويمكنهم مشاهدة التلفزيون واستخدام صالة للتمرينات الرياضية والقراءة. ويتولى رجال دين وضباط وخبراء تربويون إلقاء محاضرات عن حرمة تعاطي المخدرات ومخاطرها.

ويقول خبراء إن المدمنين الذين شارفوا على الشفاء يحتاجون للعلاج والتأهيل في بداية توقفهم عن التعاطي لا قرب نهاية حكم السجن.

ويقول مسجونون إنهم يعانون من أسوأ أعراض الانسحاب خلال العشرين يوما الأولى إذ يعجزون عن تناول الطعام أو النوم.

وقال غانم المتحدث باسم شرطة البصرة “هذا مجرد نموذج لحث منظمة الصحة على بناء مصحات”.

واختارت الشرطة المسجونين الذين حاورتهم رويترز، كما حضر رجال من الشرطة هذه المقابلات. وكان بعض المسجونين مقيد اليدين.

ارتفاع أعداد الموقوفين بسبب المخدرات سنويا منذ 2015
ارتفاع أعداد الموقوفين بسبب المخدرات سنويا منذ 2015

وقال أحدهم وهو متعاط تحول إلى مروج مخدرات، إنه تم تجنيده بعد عام من بدء الشراء وإن فكرة الحصول على مخدر الكريستال ميث مجانا هي التي جذبته.

وأضاف “كنت أشتري الغرام بخمسين ألف دينار عراقي (حوالي أربعين دولارا أميركيا)، ثم صرت أشتريه بعشرين ألفا، أبيع جزءا وأدخن جزءا، كنت أدخن مجانا”.

ووصف شبكة من المروجين تتدرج حتى تصل إلى “التاجر الكبير” الذي لم يستطع كشف هويته للشرطة خوفا على حياته، وهو يواجه السجن فترة لا تقل عن خمس سنوات.

ومن أهم طرق استدراج المتعاطين وتكوين دوائر عملية لتجارة هذه المادة، أفاد أحد أكبر تجار المخدرات والحبوب المخدرة الملقى القبض عليهم، بأن “أغلب المتعاطين يتم استدراجهم من خلال الكافيهات والمراقص وبائعات الهوى المتعاطيات للمخدرات، محاولين إقناعهم بأنها منشط عام للجسم، ونوفرها لهم بأسعار زهيدة، بل في بعض الأحيان نعرضها عليهم مجانا لحين الإدمان عليها، ليضطروا بعدها إلى طلب المادة، فنخيرهم بين شرائها بأسعارها الباهظة أو ترويجها وبيعها مقابل كمية محددة منها”.

أما عن طرق نقلها وتوزيعها بين المحافظات والمناطق أكد التاجر المدان أن “نقل المواد المخدرة وتوزيعها يكون عن طريق البعض من الذين يتم استدراجهم بالطرق نفسها، أو إغراء بسطاء الحال وسواق سيارات الأجرة بالمال الكثير عن كل نقلة ينفذونها، إضافة إلى مشاركة عدد من سواق شاحنات النقل البري من المدمنين على تعاطي مادة الكريستال التي تمنعهم من النوم لعدة أيام”.

ولفت تاجر المخدرات إلى أن “أغلب الناقلين يقومون باستغلال النساء أو المعاقين في نقل المواد لتجاوز الحواجز الأمنية، أو بإدخال المواد المخدرة في توابيت الشهداء والمتوفين للحيلولة دون خضوعها للتفتيش”.

وقال بعض المساجين إن الشرطة أوقفتهم دون وجه حق. وسئل ضابط شرطة عما إذا كانت الشرطة تعرض على المتهمين فرصة إصدار أحكام مخففة عليهم، إذا ما قدموا معلومات، فقال إنه نادرا ما يحدث ذلك.

وقال طالبا عدم نشر اسمه لأنه ليس مخولا للحديث في هذا الأمر “دائما يتعاونون”.

 غياب مراكز التأهيل

استدراج المتعاطين من خلال الكافيهات والمراقص وبائعات الهوى المتعاطيات للمخدرات
استدراج المتعاطين من خلال الكافيهات والمراقص وبائعات الهوى المتعاطيات للمخدرات

لعدم وجود مراكز تأهيل يُزج بالمدمنين في السجن، وأمهل القانون وزارة الصحة عامين لتوفير مراكز التأهيل.

وتعهد مسؤولو الصحة في البصرة بإعادة فتح مركز تأهيل يسع 44 سريرا هذا الشهر، لكن الشرطة تقول إن هذا العدد لا يكفي.

وقال عزيز متسائلا “كل النفط الذي تنتجه المحافظة نبيعه، لكن لا توجد ميزانية لمصحة؟”. وأوضح القاضي المتخصص أن “وزارة الصحة هي الأخرى لم تقم بدورها في إنشاء المصحات النموذجية ليتم إيداع المتعاطين ومعالجتهم فيها”.

وسئلت شركة نفط البصرة المملوكة للدولة عن الوضع، فقالت إنها تعهدت بتقديم خمسة ملايين دولار لإقامة مركز تأهيل.

20