زواج على ورقة طلاق

في ركن قصي من أركان نقابة الصحافيين التقيت أصدقاء قدامى، زملاء مهنة، رفقاء طريق، تفرقنا جميعا في طرقات العمل ومشاغل الحياة، طالت بنا سنوات الغياب، وفي اللقاء ضمتنا حكايات ثرثرة لذيذة، جميعنا لاذ بالحكي الفارد أجنحته فوق الموقف برمته، بدأ كل منا يسرد ما غاب عن الآخرين من تفاصيل حياتية، وكيف كانت سنوات البعاد عن الأصدقاء، ما هو جديدك؟ سؤال تقليدي أباغت به الأصدقاء أو يبادرني أحدهم به.
زغاريد الفرح الأولى دائما باهرة، يا صديقتي، تخطف القلوب والآذان سريعا بفرحتها الغامرة، يدق القلب دقات سريعة خاطفة، تمت الخطبة في غضون أشهر معدودة، سعادة الأسرتين اكتملت بالفستان الأبيض والبدلة السوداء، روعة البدايات مازالت تسكن المكان وتعلق نظرات العروسين ببعضهما البعض طويلا، يغيبان في دنيا غير تلك التي يسكنها باقي البشر.
ظلت المشاعر الدافقة تطيرهم في عالم بألوان الطيف طوال فترة الخطبة التي أرادوها جميعا وجيزة، سواء أهل العروس، في محاولة منهم للاطمئنان على ابنتهم في معية رجل يصونها، أو أهل العريس للفرحة بابنهم والتسريع بتأسيس أسرة صغيرة، أما العروسان فكانت رغبتهما في الإسراع بالزواج تفوق الخيال، كلاهما يرى أن الحياة لا تكتمل لذتها دون نصفه الآخر الملقب بـ“الحلو".
كانت طيبة والد العروس ورقي أخلاقياته وتيسيره لكافة أمور الزواج بقدر ما تسعد العريس، تثير شك وريبة والده الذي ارتاب في الأمر، إذ كيف للرجل أن ييسر كافة الأمور هكذا، حتى أنه لم يطالب ابنه بمطالب تعجيزية على عكس الصورة النمطية لأبي العروسة في بلاد عربية عديدة تزن بناتها بالمال. لم تكن مطالب أهل العروس مرهقة، بل بدت طبيعية للغاية، تم الزواج، وسارت الأمور هادئة نسبيا، عدا بعض مشكلات عابرة لا تخلو منها الحياة الزوجية مطلقا.
حكى لي زميلي الصحافي الشاب معاناته مع زوجته الريفية البسيطة، وتحولها الجذري بعد الزواج والإنجاب من أنثى تعرف متطلبات الزواج والأسرة لامرأة متجبرة لا ترى سوى نفسها، تطيع والدها على تخريب حياة زوجها العملية والطعن فيه، والتضييق عليه في عمله متى استطاع لذلك سبيلا، كثرت على الرجل القضايا والمشكلات كلما حل واحدة فاجأته أخرى، حتى يدور في فلك المنغصات طوال الوقت، لا ينهض ولا يرتقي مطلقا، حلقات مفرغة متصلة، تضيق عليه حتى كاد أن يختنق، غير أن الانفصال أنقذه من نهاية مؤلمة.
قالي لي “غدرتني بطلب الخلع قضائيا، كانت نية مبيتة لشيء ما لم أستوعبه، تخطط لخلاص بلا خسائر، وحدها تجني الأرباح، تحسب الحسبة بقوانين التجارة، غابت العاطفة عن حياتي الزوجية، في بقائها أو فراقها قسوة عجيبة، تحولت لعصبية، تجري ككرة النار وسط زروع خضراء، أينما حلت أحرقت”.
لم تفلح جلسات الصلح في رأب ما تصدع بيننا، استحالت الحياة معها، وتغير طعمها دون أبنائي، ورغم قسوة الأمر تقبلته.
في جلستنا الأخيرة كانت الصورة ضبابية غائمة، بداية الأمر اختفى الجميع من عيني زميلي فلم يعد يرى واحدا منهم في ما عدا زوجته التي جلست وسط الرجال في مجتمع مغلق، تكشف عورات زوجها وبيتها، ووالدها العجوز سليط اللسان عديم الحكمة راح يكيل السباب والشتائم.
بعد أن اعتدل الزوج “المغدور” في جلسته، وكسب الجولة الأولى في الحديث بدعم الحضور له، ورصانة منطقه، بدأت الوجوه تتضح له شيئا فشيئا، حتى رأى الجميع، كلما كسب أرضا جديدة في معركته الكلامية أمام الجالسين في دهشة مريرة، تتضح له الوجوه، واحدا تلو الآخر، حتى تجلت له اللوحة مكتملة، نقية بلا رتوش.
خرج صوته الذي كان مبحوحا في بادئ الأمر، واضحا جليا هذه المرة يسمعه الجميع، خالفت صورته الآن ما كان عليه حين ابتلع لسانه ولم تسعفه الكلمات لخوض المعركة أمام الأب وابنته. زادت المطالبات بالحصول على شقة الزوجية، والانفراد بها، كمسكن لحضانة الأطفال، تلك الشقة هي أهم إنجازات الزوج بعد رحلة عمل دامت سنوات، فضلا عن مطالبات مادية تفوق الوصف والخيال.
هذا الأب الذي حسب الحسبة وفق معطياته الخاصة، ووضع لحسابات المكسب قبل الخسارة هذه المكانة العالية، لم يكن يضع البيت ولا الأطفال في حساباته المادية الصرفة.
ذكرتني فعلة والد العروس تلك بالمثل المصري القديم المأخوذ عن مقولة رجل تركي ماكر (الدخول مجانا والخروج بـ“فلوس” نقود).
لا أعلم لماذا الزواج صعب في بلادي وكذلك الانفصال؟ سباق على إرهاق طرفين “ماديا ونفسيا” لأنهما أرادا الارتباط تشبثا بمقولة “ما يأتي بسهولة يذهب أدراج الرياح”، وحرب ضروس على من وجد راحته في الطلاق وكأنه عقاب لأنه فكر يوما في الانفصال عن نصفه الذي كان حلوا.
كثيرا من الزيجات أصبحت قائمة على التعاملات المادية البحتة، وما الذي تجنيه الزوجة حال الطلاق أو الخلع، حتى باتت مؤخرات الصداق تعجيزية بامتياز.
رفقا بشركاء الحياة، فالزواج شراكة عمر، واقتسام قلب، مشاعر، ذكريات، لحظات سعادة ونجاحات، إحباطات، الزواج حياة كاملة وليس مجرد استيلاء أحدهما على أموال الآخر.