من الرمضاء إلى النار.. حكاية مصري هاجر إلى كرايست شيرش بحثا عن الأمان

كرايست شيرش (نيوزيلندا)- من توم لاسيتر- وقف إبراهيم عبدالحليم في مسجده الأسبوع الماضي بحي لينوود في مدينة كرايست شيرش يؤم الصلاة كما اعتاد ظهر أيام الجمعة. كان عبدالحليم، الجد البالغ من العمر 67 عاما، قد تحدث في الخطبة عن “تذوق حلاوة الإيمان” كمسلم يتقي الله ويرغب في خدمة الإنسانية. تناهى إلى سمعه طقطقة.. بوب بوب بوب.. من بعيد.
ثم ارتفع الصوت. وأدرك عبدالحليم أنها طلقات رصاص لكنه استمر في كلامه. ودار في خلده أن قطع التلاوة في وسط الصلاة لا يصح. كان عبدالحليم قد هاجر من مصر إلى كرايست شيرش في نيوزيلندا عام 1995. وأتيحت له ولأسرته حياة أفضل في المدينة الصغيرة بذلك البلد النائي الذي يبعد 16 ألف كيلومتر عن القاهرة بما فيها من فقر وفساد.
تقع المدينة على هضبة من الجبال المحتفظة بنقائها الطبيعي والحقول المتدرجة، وعبدالحليم دائما يقول إنه كثيرا ما ينسى أن يغلق بابه ليلا. أيا كان ما يحدث في الخارج فسيكون على الأرجح خيرا. غير أن أكثر من 80 شخصا كانوا في قاعة الصلاة ولذا قال “حاولت أن أنهي الصلاة بسرعة”.
ثم هشمت رصاصات نافذة المسجد وأصابت البعض. وصرخ الناس وانكفأوا فوق بعضهم البعض أكواما كيفما اتفق. وشاهد عبدالحليم ابنه لكنه لم يستطع الوصول إليه حيث كان يرقد. وفي الخلفية عند الحاجز الذي يفصل القاعة عن مصلى السيدات كان الرصاص قد دفع زوجته للثبات في موضعها حيث أصيبت بطلقة في الذراع. واخترق الرصاص جسد صديقة لها كانت تجلس بجوارها فقتلها.
تعد مدينة كرايست شيرش مكانا يأخذ فيه رجال يرتدون قبعات من القش السياح في جولة على نهر أفون ذي المياه الرائقة
في الأرض التي هاجر عبدالحليم إليها لكي تصبح ملاذه الآمن تسرب الخوف إلى قلبه فجأة خشية أن يشهد مقتل أفراد أسرته أمام عينيه. في ما بعد قالت الشرطة إن الأسترالي برينتون تارانت (28 عاما) هو مرتكب المذبحة التي راح ضحيتها يوم الجمعة الماضي 50 قتيلا وعدد كبير من الجرحى.
وقد رسمت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن صورة مغايرة جدا لنيوزيلندا في خطاب عن المذبحة حيث قالت بصوت يخنقه الانفعال “نحن نمثل التنوع والطيبة والرحمة. (نحن) وطن لمن يشاركوننا قيمنا. ملاذ لمن يحتاجون إليه”.
كان ذلك هو ما سعى إليه الكثيرون من الضحايا في كرايست شيرش فرحلوا من الصومال وباكستان وسوريا وأفغانستان سعيا لحياة أفضل وليس في جيوبهم سوى القليل.
يتحدث عبدالحليم عن المدينة التي كانت حلما وأصبحت حقيقة فيقول، إنه كان يعمل قاضيا تخصص في قضايا المواريث والإيجارات. وكان يعيش في أحد الأحياء الراقية وكان ابنا لوالدين يعمل أحدهما بالتدريس والآخر في وظيفة حكومية. وكان أخوه ضابطا في الجيش المصري. لكنه لم ير شيئا من المستقبل الذي يريده لأولاده الثلاثة في مصر.
كانت القاهرة قد شهدت اغتيال الرئيس أنور السادات على أيدي متشددين إسلاميين في 1981 وسلسلة من تفجيرات القنابل في المدينة وحولها عام 1993. ولذلك انتقلت الأسرة إلى كرايست شيرش وقبل عبدالحليم العمل الوحيد الذي أتيح له وهو موظف بإلإدارة الحكومية المسؤولة عن خدمات التوظيف والمساعدات المالية.
وقال “حاولت دراسة القانون لكني وجدت أنه من الصعب جدا أن أبدأ من جديد”. ومع ذلك كان أولاده يذهبون إلى مدارس جيدة وانتقلت أسرته إلى بيت صغير ما زال يعيش فيه وتنمو فيه الزهور بفناء ذي نباتات مشذبة.
ويقول عبدالحليم إن أحد الجيران يدعوه إلى تناول الشاي “تقريبا كل يوم”. وتعرفت الأسرة على المرأة التي تعمل في مكتب البريد وعلى صاحب متجر في المنطقة والجميع تقريبا.
وبعيدا عن فوضى القاهرة تعد مدينة كرايست شيرش مكانا يأخذ فيه رجال يرتدون قبعات من القش السياح في جولة على نهر أفون ذي المياه الرائقة. وتشتهر المدينة بحدائقها وطيورها الصداحة والترام الذي يمر بميدان الكاتدرائية.
وانتعشت أحوال عبدالحليم مع انتعاش المدينة. وافتتح مطعما سماه على اسم مدينته القديمة القاهرة. وأصبح له دور بارز وسط الطائفة المسلمة وعمل إمام مسجد أطلق عليه اسم النور.
وعندما خطف إرهابيون طائرات واندفعوا بها إلى مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001 كان عبدالحليم رئيسا لجمعية إسلامية محلية. وقال لقد كثر في ذلك الوقت تعرض المسلمين لصيحات استهجان من الشبان ومحاولات جذب حجاب النساء. فما كان منه إلا أن نظم فعاليات لأبناء الطائفة في المسجد. وفي 2017 شارك في افتتاح مصلى للأديان المختلفة في المطار. وساعد في تأسيس مسجد لينوود ووافق أن يكون إمامه عند افتتاحه في أوائل العام الماضي رغم أن بيته في الناحية الأخرى من المدينة.
يقع المسجد الذي كان مركزا إسلاميا من قبلُ وسط لافتات تحمل أسماء سالفيشن آرمي (جيش الخلاص) وهو متجر للرهانات ومتجر سوبر ليكر للمشروبات الكحولية وسوبر ماركت فاليو مارت. ويعد وجود المسجد علامة على نمو الطائفة المسلمة الصغيرة في المدينة.
بعد مرور 24 ساعة على وقوع المذبحة خرج عبدالحليم من مركز لإدارة الأزمات في كرايست شيرش. على الجدار كانت كلمة الدخول على شبكة الواي فاي وكلمة السر مكتوبة بالإنكليزية على ورقة بيضاء “يو آر ولكام” أي أهلا وسهلا بكم.
كانت مجموعة من أعضاء ناد للدراجات النارية قد ركنت دراجاتها على العشب إظهارا للدعم. وكان رجال ممتلئون يرتدون صدريات من الجلد الأسود يتحركون جيئة وذهابا. وتحدث شاب رسم على خده اسم النادي مع الصحافيين بينما كان رجال الشرطة يقفون ببنادقهم الهجومية. سار عبدالحليم بتؤدة وسط المجموعة ببدلة سوداء. وقال إن الكل كان يسأل “هل يمكن أن يعود السلام إلى كرايست شيرش؟”.