شكرا لساعي البريد

“شكرا لساعي البريد”. كانت مثل هذه العبارة على خلفية المظروف الرسائلي الذي نبعثه بالبريد العادي، سابقا، تحمل معها الكثير من الشجن والجمال والسؤال والجواب، وكان الزمن فيها مجردا من التعقيد، والحياة ببساطتها عبارة عن رسائل تتكرر في المناسبات الشخصية أو غيرها، تحمل معها طوابع صغيرة من دول بعيدة وقريبة تشي بالنوع السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي لهذه الدولة أو تلك.
ومن المؤكد أن عبارة “شكرا لساعي البريد” التي كنا نحرص على كتابتها على الوجه الآخر من المظروف هي نوع من التأكيد على الثقة التي نوليها لحامل الرسائل وحامل الأفراح وشجن المسافات البعيدة، وهي نوع من الاطمئنان النفسي على أن ساعي البريد هو الوحيد القادر على إيصال رسائل الحب والأشواق والأفراح إلى أبعد مدى من دون أن نعرف خلفية هذا الساعي الغامض ولا ثقافته ولا مرجعيته، سوى أنه موضع ثقة للجميع وكاتم للأسرار على وجه الدقة.
ساعي البريد الذي اختفى فجأة من الحياة بسبب الإلكترونيات المستحدثة في ثورة تكنولوجيا الاتصالات، كان القاسم المشترك بيننا وبين الزمن، وهو نوع إيثاري وليس وظيفيا، يتخطى الكثير من الحواجز الاجتماعية ليكون في جوهر الحياة من دون أن يكون فاعلا جدا، سوى أنه حامل ومخبر صامت. تتلخص مهمته في ربط الأحداث السرية ببعضها مع المسافات الجغرافية والزمنية مهما امتدّت واستطالت وتشعبت طرقها. كأنه الضامن الوحيد على هذه الأرض لربط الحياة وسككها الطويلة المعقدة، وربط المشاعر البشرية وإيصالها إلى ذروتها بضمانته الشخصية من دون أن يُشعرنا بذلك، كما لو أنه قدر يمشي على قدمين أو يعتلي دراجة هوائية.
“شكرا لساعي البريد” اعتراف أولي بأن هذا الكائن هو مصدر الأمان من النقطة س إلى النقطة ص مهما تباعدت هاتان النقطتان وتفرعتا. وهو فرد يحتوي المجموع بسلاسة. يحمل عنهم أعباء كثيرة من دون أن يكون له دور في تلك الأعباء كما يحمل الأفراح والسعادات الصغيرة والكبيرة من دون أن يتصنّعها، ليكون زمنا شخصيا في الأغلب الأعم للبشرية التي أولته ثقتها وربما بعض مصائرها في أزمان متعاقبة ليست قليلة.
في جماليات الآداب والفنون أخذ ساعي البريد دوره الطبيعي في مثل هذه الأدبيات والجماليات الفنية، وربما لا يزال كذكرى من ذكريات الزمن المنسحب، لا لأنه الماضي المُتحفي بصورته المعروفة، إنما لأنه أحد صنّاع الحياة في أزمان كثيرة بطريقته البسيطة المألوفة ودراجته الهوائية القديمة، ولعلنا نتذكر الفيلم الأميركي “ساعي البريد يقرع دائما مرتين” في أربعينات القرن الماضي المأخوذ من رواية جيمس كاين وكيف تعرض الفيلم لهجوم لاذع لجرأته في كشف الحياة السرية للناس، ومع إنتاجه ثانية في ثمانينات القرن الماضي كان يحظى بقبول مضاد للنسخة الأولى بسبب التقنيات الحديثة وتغيير نمط التمثيل والإخراج.
الفيلم الأميركي الآخر “ساعي البريد” الذي أخرجه ومثّله كيفن كوستنر هو عنوان لرواية من أدب الخيال العلمي ليفيد برين سلطت الضوء على هذه الشخصية الفريدة في المجتمعات، وهناك فيلمان عربيان من سوريا والجزائر حملا “ساعي البريد” عنوانا مشتركا لهما في سبعينات القرن الماضي، ونعتقد أن الأفلام المصرية تناولت هذه الشخصية الظريفة في أكثر من فيلم.
وتحظى رواية “ساعي بريد نيرودا” لأنطونيو سكارميتا بقراءات متعددة نظرا لتمثيلها حقبة السبعينات في تشيلي وكيف كان السارد بارعا في رسم حياة الشاعر نيرودا، وعندما تحولت بعين المخرج ميشيل رادفورد إلى السينما نال فيلمها جائزة الأوسكار.
وهكذا يمكن إيراد نماذج سردية وسينمية ومسرحية في رصد هذا الزمن الجميل عبر شخصية ساعي البريد التي نسيناها بسبب التحولات السريعة في الحياة العملية ودخول العالم في حقبة الإلكترونيات كثورة لا بد منها.
ساعي البريد زمن مضى..
و”شكرا لساعي البريد” كانت تجسّد ذلك الوفاق الضمني بين هذه الشخصية والحياة العامة في كل المجتمعات.