القطاع العام.. بين الجدوى الاقتصادية والأهداف الاجتماعية

تونس - حادثة موت 12 رضيعا تونسيا، التي جدت نهاية الأسبوع الماضي في أحد المستشفيات الحكومية التونسية، بقدر ما أثارت من أسئلة متشعبة، بدءا من المسؤولية ووجوب عدم الإفلات من العقاب، وصولا إلى الفساد العميق الغائر الذي ضرب عميقا في مختلف مفاصل الدولة، مرورا بأسئلة كيفية التصرف مع مثل هذه الحوادث، إلا أنها أيضا أثارت قضية أكثر عمقا، بمعنى الأهمية والمستقبل.
والقضية بدأت باستفهام تونسي مشروع؛ من سيجرؤ مستقبلا على الذهاب إلى مستشفى حكومي في ظل هذا التسيب الذي وقف الجميع على استشرائه؟ الاستفهام المشار إليه لا ينسحب فقط على القطاع الصحي، بل يطالُ أيضا كل القطاعات العامة في تونس، والتي تردت خدماتها بعد ثورة العام 2011، لأسباب كثيرة ومتداخلة.
قطاعات الصحة والتعليم والنقل، وهي قطاعات حيوية في أي بلد، أصبحت قرينة للخدمات المتردية والإضرابات وتعطل إسداء الخدمة. هذا الواقع المجمع عليه تونسيا، فتح الباب على مصراعيه لرواج فكرة قديمة بمبررات جديدة، تقوم على أن انتشال هذه القطاعات من الهوة السحيقة التي تردت فيها لا يمكن أن يحصل إلا بخوصصتها وفتحها أمام قوانين المنافسة، التي تعني، لدى المؤمنين بها، تحسين خدماتها ورفع جودتها.
الإجماع التونسي على التشخيص القائم على أن القطاعات التي تخضع لإشراف الدولة تعيش منذ سنوات أزمات عصيبة وتردت خدماتها إلى الحضيض، يقابله اختلاف في الحلول، أو في الموقف من إشراف الدولة من عدمها على هذه القطاعات. وذهب المدافعون عن فكرة الخوصصة بعيدا في الذود عن مبدأ النجاعة بطرح تجارب دولية شبيهة أو مقارنة مع أقطار تغيرت أحوالها بمجرد أن تخلت عن تلك القطاعات للمنافسة الحرة، وتجردت من عبء مسؤولياتها وإشرافها عليه، لتكتفي بالمراقبة وتشريع القوانين الناظمة والضامنة لحد أدنى من الجودة في النقل والصحة والتعليم.
النقاش الدائر بين أنصار المنظومة العمومية وأنصار الخوصصة، نقاش قديم يندلع مع كل حدث يوفر له أرضية الاندلاع، وفي قضية الحال عاد الجدل مجددا ليقدمَ اتفاقا على التشخيص واختلافا في الحلول. على أن المسافة الفاصلة بين مواطن الاتفاق ومناطق الاختلاف تسودها إضافات كثيرة يتغاضى عنها طرف أو يوظفها آخر.
في خلفية حدث وفاة الأطفال الرضع في تونس أدلة كثيرة على الفساد، والظاهرة الأخيرة، ولئن تترعرع في البيئات الاقتصادية والبيروقراطية الحكومية المتكلسة إلا أنها يمكن أن تزدهر أيضا حتى في مجالات الاستثمار الخاص. الفساد الذي استشرى في تونس بعد الثورة، وحتى إن كانت وقائعه حاضرة قبل ذلك، هو التربة التي يمكن أن تنتج الكوارث والأزمات، وهو الذي تسبب مباشرة في وفاة الرضع، وإن لم يسفر بعد عن النتائج النهائية للتحقيقات.
وفي خلفية الجدل التونسي حول دور الدولة أو ضرورات الخوصصة، إشارات كثيرة إلى دور الصناديق المالية الدولية المانحة، والتي يشار كثيرا إلى إملاءاتها وتعاليمها على حكام تونس وغيرهم، ولعل ربط القروض بإجراء إصلاحات اقتصادية عارمة، يمثل وفق خبراء الاقتصاد والأصوات النقابية واليسارية الرافضة لكل نفس تحرري في الاقتصاد، الشجرة التي تخفي غابة الإملاءات والخضوع.
الثابت أن الجدل سيظل مستعرا والأسئلة ستظل مطروحة، حول أولوية الدولة أم القطاع الخاص؟
ولئن يدجج كل طرف أطروحاته بحجج ومقارنات وأرقام ووقائع، إلا أن القضية على راهنيتها وحدتها وانفتاحها أحيانا على فواجع من قبيل فاجعة نهاية الأسبوع، تظل مع ذلك قابلة لمبدأ تدوير الزوايا وتجنب التطرف من الموقفين.
ولا شك أن الفيصل في هذا الخلاف هو أن محاربة الفساد وإرساء القانون وتثبيت مبدأ عدم الإفلات من العقاب، ثوابت يمكن أن تخفف عطالة وتكلس الإشراف الحكومي على هذه القطاعات من ناحية أولى، وتخفف من تغليب الجوانب الربحية التجارية عند خوصصة هذه القطاعات، من ناحية ثانية، وهو ما يعني إمكانية تعايش القطاعين مثلما يحصل في أقطار كثيرة من العالم، مع ضمان الحد الأدنى من الجودة والنجاعة.
إقرأ أيضاً: