الرواية وإثبات الوجود

الكاتب الحق هو الذي يكون عارفا بمجتمعه لا محالة، ولكن عارفا أيضا بخصائص الفن الذي اختاره، وتطوراته ماضيا وحاضرا.
الخميس 2019/03/07
كتاب يتخذون الرواية مطية لإثبات الوجود

اجتاح الساحة العربية في الأعوام الأخيرة هوس بكتابة الرواية، ولم يعد كتّابها من خرّيجي شعبة الآداب وحدهم بل شمل الإقبال عليها كل القطاعات وشتّى الأعمار.

وهذا جيّد في المطلق، لأن الكمّ سوف يفرز الكيف حتما، ولكن من المؤسف أن أغلب من يخوضون غمار هذه التجربة النبيلة لم يكلّفوا أنفسهم عناء الاطلاع على شروطها للإلمام بأدواتها، والاستفادة من تجارب السابقين عربا وأجانب، ليتبيّنوا على ضوئها مسيرهم، بل إن الرواية عندهم تبدأ ببدايتهم.

 ومن النادر أن تجد من بينهم من قرأ لأعلام هذا الجنس الأدبي، أو حاول التعرّف على المدارس التي تعاقبت على التنظير له عبر تاريخه، بل إن منهم من لم يسبق له أن جرّب كتابة نص سردي، ولو كان قصة قصيرة. أي أنهم في الواقع يتخذون الرواية مطية لإثبات الوجود وتحقيق مكانة اجتماعية لم يحوزوها في مجالات تخصّصهم.

والحاصل في النهاية نصوص سردية تجمع بين العفوية والانتحال والتقليد، وتشي بقلة إقبال أصحابها على القراءة، أو عدم الإقبال عليها إطلاقا، ما يقودهم في أحسن الحالات إلى اتباع أكثر مسالك الكتابة انتهاجا، بدل البحث عن مسلك خاص، لم يَسر على أديمه سابل.

يقول ريمون كينو “الكتابة حاجة ضارية، تراجيدية لدى كل الكتّاب، وبشكل أشدّ في الغالب لدى الرديئين، أكثر منها لدى الجيّدين”.

كان كينو يتحدث عمّا يقع بين يديه من مخطوطات هي عبارة عن سيرٍ ذاتية نرجسية، ونصوصٍ يعوّض بها أصحابها عن خيباتهم أو يزعمون من خلالها أنهم مصلحون اجتماعيون، وهُذاءِ عصاميين يكتبون بالفطرة، ويتميّز أغلبهم بفقر ثقافيّ مدقع. ويصفهم بكونهم متعطشين إلى إثبات الذات عن طريق الكتابة، مع الامتناع عن القراءة، والتغاضي عمّا يكتبه الآخرون، فهم في رأيه أناس يغتلّون بشكل يجعلهم لا يفكرون إلا في أنفسهم. يتحدثون عن مآس حقيقية، ولكنهم يتجاهلون العالم، بدءا بأقرب جار.

ومن نافلة القول إن العبقرية شيء نادر، وإن الكاتب الحق هو الذي يكون عارفا بمجتمعه لا محالة، ولكن عارفا أيضا بخصائص الفن الذي اختاره، وتطوراته ماضيا وحاضرا، وهو الذي يشتغل على نصه ليل نهار، ولا يكف عن الاشتغال عليه حتى بعد تسليم مخطوطته للناشر، لأن الاتكال على الموهبة وحدها لا يكفي.

وعودة إلى كينو وصرامته في تقويم ما يعرض عليه، يذكر أنه رفض أول مخطوطة تقدّمت بها مارغريت دوراس، وقال لها “سيدتي، أنت كاتبة حقيقية”. وكان ذلك تأكيدا منه على أنها تمتلك موهبة، ولكن تحتاج إلى صقل ودربة.

15