استعادة التراجيديا بثوب كوميدي في "مهرجان المسرح الثنائي" بالشارقة

يبدو أن الحواجز والفواصل الجامدة بين الأنماط المسرحية المتعددة لم تعد موجودة بشكلها الصارم، حيث بات المسرحيون الجدد يمزجون بين ألوان الطيف التعبيرية المتدرجة بين السواد القاتم والبياض الناصع، إيمانا بإمكانية توليد الضحكات وسط الدموع، وخلط الهزل بالجد، وتحقيق الكوميديا السوداء التي ربما تكون أكثر تأثيرا أو أكثر ملامسة للوجدان وهو ما اشتغل عليه عرض “الرجال لهم رؤوس.
الشارقة - انطلاقا من أن “شر البلية ما يضحك”، أقدمت فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية على مغامرة حقيقية في الديودراما المسرحية “الرجال لهم رؤوس” التي قدمتها الفرقة المصرية ضمن فعاليات مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي بالشارقة، وذلك بتفجير الهزل من قلب المأساة التي كتبها المسرحي الراحل محمود دياب.
يستعيد العرض التراجيديا الخالصة للكاتب المسرحي محمود دياب (1932-1983) في ثوب كوميدي، بما يفتح مجالا واسعا للجدل حول مدى نجاح هذه المغامرة.
القضايا الراهنة
المغامرة التي أقدم عليها العرض من إخراج سهام السعيد وتمثيل علاء قوقة وإيناس المصري وإضاءة محمد يوسف وديكور أحمد شوقي وصوتيات ريهام سالم، ولها أكثر من جانب، فمن جهة هناك رهان على نص ينتمي إلى القرن الماضي في استيعاب قضايا اللحظة الراهنة وتشابكات واقع المجتمع المصري المعقد، ومن جهة ثانية هناك خلخلة جوهرية للنص الأصلي بزراعة عناصر كوميدية في تربته التراجيدية الصلبة، وهذا ما يقود إلى الإشكالية الثالثة المتعلقة بلغة النص، فقد احتوى العرض بعض المفردات والتركيبات (المضحكة) بالعامية المصرية في منظومة اللغة الفصيحة المستخدمة.
بالنسبة إلى مدى صلاحية النص الكلاسيكي للتعبير عن العصر الراهن، فإن اختيار مسرحية دياب جاء موفقا، فهي تطرح أفكارا وقضايا إنسانية عامة مطلقة، تناسب كل زمان ومكان، ولا تتعلق بظرف مكاني أو تاريخي بعينه، فهي تناقش قدرة الإنسان على تحرير وعيه وامتلاك رأسه وتفعيل إرادته الحرة ومقاومة المخاوف والهواجس وعوامل القهر الداخلي والهزائم النفسية.
استعرضت المسرحية، في ديكور بسيط معبر عن بيت مصري تقليدي مؤثث بأقل اللوازم من أريكة ومنضدة ومقاعد خشبية ومكتبة صغيرة ومذياع، حياة رجل (لم تذكر المسرحية اسمه) وزوجته (فردوس) في أحد الأيام الشتوية الباردة، حيث لا مجال لفتح النوافذ، ولا شيء يمكن ممارسته سوى التسلية وقضاء الوقت المجاني داخل الجدران.
من خلال حديث عائلي بين الرجل وزوجته، اللذين ظهرا بملابس تعبر عن شخصيتهما المحافظة (الروب وغطاء الرأس)، تكشفت ملامحهما النفسية، فهما شخصان قليلا الحركة، هادئا الطباع، يعيشان حياة بسيطة، وكلاهما مدمن هواية تناسب روتينية الوقت، فالزوجة تدمن أشغال التريكو، والزوج يدمن لعب الكوتشينة مع أصدقائه، خصوصا جاره خيري ضابط المباحث، الذي حكى عنه الزوج لكنه لم يظهر في العرض.
من خلال الحدث المحوري في العرض، تجلت الفوارق بين الرجل وزوجته، ونشأ الصراع الذي يقود إلى هدف المسرحية الغائي. هذا الحدث، هو طرق باب البيت، وتسلّم الزوج طردا خشبيا كبيرا من عامل توصيل الطرود (الذي لا يظهر أيضا)، وحين يفتحه يفاجأ بأن فيه جثة لرجل، بلا رأس. وبعد قليل، يأتي الطرد الآخر، وهو صغير، وحين يفتحه يجد فيه الرأس المقطوع.
جينات المفاجأة
حاول الزوج مداراة الطرد الذي يحتوي الجثة بمفرش، ليبدو كمائدة، ووضع عليه أصيص الورد، ظنًّا أنه يحل الأزمة، لكن زوجته صرخت فيه واتهمته بالجبن، وهنا تفجرت جينات المفاجأة لديه، فصفع زوجته على وجهها، ثم اعتذر لها موضحا أنه ليس جبانا، وإنما يتحلى بالطيبة الزائدة، وأنه لم يكن يريد إمعان النظر في الجثة مقطوعة الرأس احتراما للإنسانية وليس خوفا من الموقف.
شكلت هذه الواقعة المحورية تحولا في شخصية الزوج، فبدأ في مواجهة المشكلة بإيجابية، ونظر إلى الرأس جيدا، فوجده يشبه رأسه هو، وهكذا اعتقدت الزوجة أيضا. وهمّ الرجل ببذل كل ما في وسعه لكشف هوية القتيل، والاقتصاص له واستعادة حقه، رغم أن “طريق الحق صعب وطويل”. وفي تلك اللحظة، اختفت الجثة، وأعلنت الزوجة صراحة “لم أعد أرى في بيتي جثثا”، وهي الجملة نفسها التي انتهت بها مسرحية محمود دياب.
نجح العرض في توصيل الفكرة الأساسية بسهولة، فالإنسان مجرد جثة مقطوعة الرأس حال تجمده وارتضائه الظلم والقهر والكبت، وهو إنسان كامل حال استرداده وعيه وحريته وإصراره على بذل الجهد ومواجهة الصعاب والقوى القاهرة، الداخلية والخارجية، بما فيها السلطات المتعنتة (رؤساء الزوج في العمل).
المسرحية تناقش قدرة الإنسان على تحرير وعيه وامتلاك رأسه وتفعيل إرادته الحرة ومقاومة المخاوف والهواجس
لعل رغبة صناع العرض في استثمار الملكة الكوميدية لدى الفنان علاء قوقة دفعتهم إلى تعميق هذا المسلك على امتداد العرض، لكن هذه الأبعاد الهزلية موجودة لمن يدقق في النص الأصلي لمحمود دياب، فالزوجة تصف زوجها بأنه “مهرج”، وحتى إن كانت تقصد أنه يثير الاشمئزاز بسلبيته، فإن “التهريج” يحتمل السخرية والإضحاك ومقابلة الأمور الصعبة بتصرفات ومقولات غير منطقية.
ربما أفرط الزوج بعض الشيء في هذه السخرية المضحكة، في مواقف لا تحتمل غير الفزع والرعب، لكن العرض بهذه الصورة النهائية التي جرى تقديمه بها ليس واقعيّا صرفا، وإنما يمزج بين الواقعية والتعبيرية والعبثية، فضلا عن استلهامه الرموز، وبالتالي فهو يسمح بذلك المزج بين الحالة التراجيدية العامة والمفردات والعبارات الكوميدية،.
هدوء العرض، ودورانه في فلك ضيق، بإيقاع شتوي هادئ، رغم الحدث المحوري الاستثنائي العاصف، جاء متناسقا مع السينوغرافيا المحبوكة، التي يُحتسب لها توظيف كل المفردات القليلة المتاحة، مثل النوافذ التي كانت مغلقة ثم فتحها الزوج عندما تحرر من عُقده، وكذلك المائدة والمقاعد والصندوق الخشبي والمفرش الذي تمت تغطية الصندوق به ليصير مائدة، وغيرها من العناصر.
اعتمدت الإضاءة القوية فلسفة كشف التفاصيل كلها، على اعتبار أن العرض يسير نحو تعرية الشخصية، وإضاءة ظلامها الداخلي، وجاءت المؤثرات الصوتية للفنانة ريهام سالم مواكبة لحركة الأحداث.
واعتمد العرض، في مجمله، على مبدأ “التفصيل على المقاس المطلوب”، بمعنى أنه لا داعي لاستعراض العضلات الإخراجية والتمثيلية والحركية إلا بالقدر المحدود الذي يلائم نصا يدور في مساحة محكومة ويطرح أفكارا نوعية تعكس فلسفة محددة.