استنبات الخيال في الذاكرة

أود لو يخصص قصر الثقافة في كل من أسوان والأقصر عروضا لتلاميذ المدارس خلال المهرجانين، لغرس ذكريات تلازمهم بقية العمر.
الجمعة 2019/03/01
مشاهدة الأفلام تقرب الناس من بعضهم وتنمي وعيهم

قبل يومين انتهت الدورة الثالثة لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، وفي 15 مارس 2019 تبدأ الدورة الثامنة لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية. لكلا المهرجانين رسالة شديدة الأثر وبعيدة المدى لو أحسن التنسيق مع الإدارة التعليمية في محافظتي أسوان والأقصر، لاستنبات الخيال في ذاكرة الصغار، بتخصيص عرض يومي لكل مدرسة، وتكون "رحلة السينما" يوما دراسيا استثنائيا بديلا للمدرسة، نافذة على رحابة تحفر عميقا لأوتاد بناء راسخ عاصم من قواصم الكراهية والعدوان.

في نيودلهي رأيت الهنود يحتملون حرارة الصيف القائظ، وينتظرون في طوابير تمتد بضع مئات من الأمتار لدخول القلعة الحمراء، وهي من الآثار الإسلامية المغولية. يتصالحون مع تاريخهم ويحبونه، ولا يقارن بهم وعي مغلوط لدى أغلب المصريين بتاريخهم القديم، المسمى خطأ "التاريخ الفرعوني". ليس في السجل الأثري أو التاريخي حاكم مصري حمل لقب أو اسم "فرعون"، ولكن الكتب المقدسة واستسهال النقل وتوارثه جعلت من كل استبداد فرعنة، ومن كل طاغية فرعون. وأصل الاسم هو "بر عا" أو "بر عو" ومعناه "البيت العظيم"، وفي أمكنة وأزمنة أخرى كان: الباب العالي، القصر، السراي، المخزن. ويحلو لوعاظ المساجد لعن "فرعون"، واتهام وهم اسمه "مصر الفرعونية" بالكفر والوثنية وعبادة "الفرعون». ولو تدبروا التاريخ لفقهوا أن المصريين القدماء ابتدعوا الدين، واهتدوا إلى فكرة الخلود في العالم الآخر، عبر اجتياز الصراط، بعد وزن القلب بريشة "ماعت" إلهة الحق والعدالة. ويوضع القلب في كفة ميزان في كفته الثانية ريشة ماعت، وإذا رجحت كفة الريشة فقد "خفّت موازينه"، سيئاته، ويفوز بالفردوس الأعلى.

السينما فسّرت لي شيئا من أسرار الحالة الهندية. ففي مهرجان أوسيان سيني فان بنيودلهي، فوجئت بالعرض الصباحي مخصصا لتلاميذ إحدى المدارس، وكل يوم تستضاف مدرسة. بدأ الصغار في زيهم المدرسي فرحين، كأنهم في رحلة، إجازة من الالتزام الدراسي، ولا أحب إلى التلاميذ من يوم تتعطل فيه الدراسة أو يغيب المدرس. كانوا يشغلون القاعة الكبرى في مجمع سينمائي، فتقرّ بالسينما أنفسهم، وتقرّبهم الأفلام من الآخر، وتنمي وعيهم بأن في الدنيا شعوبا أخرى، ولا فرق بين هندي وغير هندي إلا بما يضيفه إلى العالم من خير وجمال، ولكن مشايخنا يحرّمون السينما والغناء والفنون عموما، والوسطيون يضعون شروطا توظف الفنون في التعبئة النفسية المواكبة للمعركة مع العدو.

أود لو يخصص قصر الثقافة في كل من أسوان والأقصر عروضا لتلاميذ المدارس خلال المهرجانين، لغرس ذكريات تلازمهم بقية العمر. وليست الذاكرة أمرا هيّنا، وقد لا نشعر بدلالة المخزون المعرفي والثقافي؛ لاحتشاد ذاكرتنا بأكثر من قدرتها على الاستيعاب، على عكس دول مثل الولايات المتحدة تنقصها ذاكرة تاريخية، لنشوئها مع اقتراب نهار التاريخ الإنساني من نهايته، حين صحوا عصرا وقرروا بناء دولة، فكانت حرب الاستقلال التي يستلهمونها في أفلامهم.

لا أنسى أول فيلم شاهدته، بمجرد التحاقي بجامعة القاهرة، كان "الطوق والإسورة" أفضل أعمال خيري بشارة. تأكد لي ليلتها أن هذا الطيف أجمل "حقيقة" اهتدى إليها الإنسان، ولا أتخيل القرن العشرين وما بعده من دون السينما. ولا أنسى أول فيلم شاهدته من الدرجة الثالثة "الترسو" بمدينة المحلة الكبرى، "امرأة بلا قيد" أحد أسوأ أفلام بركات. وسبقه إعلان لفيلم "الجحيم" لعادل إمام. وبعد 30 عاما قابلت في ندوة بأبوظبي ماهر راضي مدير تصويره. وحدثته عن نجاتي من السرقة، وحرصي على سلامة جلباب العيد من معركة السجائر، وأن في رواية "الطريق" لنجيب محفوظ تأثرا برواية جيمس كين "ساعي البريد يدق الباب مرتين" التي اقتبسها فيلم "الجحيم".

ما أضيق العالم وأوسع الخيال.

14