كيف يمكن تغيير واقع النقل في الاقتصادات الناشئة

المنطقة العربية بحاجة إلى أدوات سياسية تدير بنجاعة قطاع النقل الذي ظل إرثا ثقيلا فشلت مختلف الحكومات في إيجاد حلول جذرية له.
الأربعاء 2019/02/27
وسائل النقل تتحول إلى كابوس في العالم العربي

تعصف بقطاع النقل في مختلف أنحاء العالم، ومنها المنطقة العربية تحديات كثيرة، تحتاج إلى سياسات جدية لحلها حتى لا يزداد الوضع سوءا، حيث يلفت خبراء إلى أن واقع النقل يتغير مع توقعات بتزايد النمو السكاني وارتفاع نسبة التحضر يرافقهما تلقائيا ارتفاع في حركة تنقل المسافرين، وبالتالي زيادة في استهلاك الطاقة، وعليه يجب أن تفهم حكومات هذه الدول دوافع هذه الحركيّة وتصوغ سياسة ناجعة لتحسين مستقبل هذا القطاع.

تونس – يتأثر قطاع النقل في العالم بالتغيرات السياسية والاقتصادية والتنموية، في مختلف دول العالم، لكن مشاكل قطاع النقل في الدول النامية، ومن من بينها أغلب دول المنطقة العربية، تبدو أكثر تعقيدا.

تعتبر أزمة قطاع النقل في هذه الدول إرثا ثقيلا فشلت مختلف الحكومات في إيجاد حلول جذرية له. وازداد الوضع تعقيدا في دول مثل تونس مصر وسوريا، وغيرها، إثر مرحلة الانتقال الديمقراطي الصعبة بعد اندلاع ثورات بالربيع العربي في عام 2011.

لم يكن قطاع النقل بمنأى عن الاحتجاجات، سواء للمطالبة بتحسين وضعية العاملين فيه أو بتحسين ظروف العمل وتجديد الأسطول.

 لكن في الوقت الذي تتزايد فيه المطالب لم يشهد قطاع النقل تحسنا بل تتراجع خدماته يوما بعد يوم. أمام وعود حكومية بالتدارك والتطوير مازالت قيد الانتظار.

وكشف تقرير عن واقع النقل في تونس،  أن حالة القطاع متدهورة في جميع القطاعات ويلاقي صعوبات في مختلف أنواعه؛ البري والبحري والجوي. ويعد هذا التقرير الأول من نوعه، وهو الاخير إلى حد الآن، حيث تم نشره  سنة 2016، دون أن يتم تحديثه أو تفعيل ما جاء فيه من نتائج ومقترحات لتحسين جودة هذا القطاع الحيوي.

ويرصد التقرير تحديات كبيرة على مستوى مشاكل النقل المهيكل المدرسي وكيفية توزيع أسطول النقل بين الجهات وغلاء أسعار تذاكر النقل الجوي، وحالة شبكات السكك الحديدية وضعف شبكة النقل بالمناطق الداخلية، إضافة إلى تقادم الأسطول بالشركات الجهوية والوطنية، وعدم التزام شبكة النقل بمواعيد سفراتها، وهو محل تذمر متواصل من قبل المواطنين.

في 2030 من المتوقع أن تكون للعالم 43 مدينة كبرى تضم كل واحدة أكثر من 10 ملايين نسمة، معظمها في المناطق النامية

الوضع في مصر أكثر سواء، نسبة لعدد اللسكان،  والنبية التحتية الضعيفة. ويكفي أن تضع في خانة البحث عن الصور كلمات مثل نقل ومصر حتى تخرج عشرات الصورة، للوهلة الأولى لا تدري هل هي الهند أم مصر، حيث ينتشر الربكاب على السطح القطارات ويتموسكون بأبوابها. وتشهد مصر نسبة عالية من حوادث القطارات، تعود من جزء كبير منها إلى اهتراء الأسطول.

ويعاني كامل أسطول النقل البري في مصر يعاني من العديد من المشكلات، يأتي في مقدمتها عدم التحديث والتطوير، إضافة إلى أن شبكة الطرقات تعاني من مشكلات مزمنة، ما دفع بوزارة النقل إلى وضع استراتيجية لتطوير منظومة النقل بشكل كامل حتى العام 2050، لتشمل مخططات لتطوير البنية التحتية والإدارية والتشريعية المرتبطة.

وأقام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في نوفمبر الماضي ورشة عمل لدراسة مكانة “النقل في الاقتصادات الناشئة”. وقد جمعت هذه الورشة عدة أطراف شكلت ممثلين لحكومات، ومنظمات دولية، وشركات خاصة. اجتمعت هذه الأطراف للبحث في العوامل الاقتصادية والبيئية والاجتماعية لواقع النقل في هذه الدول.

كان التركيز على العلاقة بين النقل واستهلاك الطاقة، وإمكانية تعطيل أنماط النمذجة والتخطيط التقليدية أمام سياسات واستثمارات النقل الجديدة، متعددة الوسائط، ونماذج الأعمال المتغيرة.

تزايد النمو السكاني

كانت ورشة العمل هذه محور تقرير أعده نيكوس تسافوس الخبير في برنامج الطاقة والأمن القومي بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية حيث رصد تسافوس جملة من التحديات التي تعصف بمستقبل قطاع النقل، وأشار الباحث إلى أن أول تحد أمام هذا القطاع هو ارتفاع نسبة السكان والتحضر وتزايد الصناعة التي تدفع تبعا لذلك إلى تزايد الطلب على النقل.

والطلب على خدمات النقل ينجرّ عنه ارتفاع في استهلاك الطاقة، وهو متأت من عوامل معينة، والعامل الأول والأكثر وضوحا هو النمو السكاني. إذ تتوقع الأمم المتحدة أن ينمو عدد سكان العالم بزيادة مقدارها 918 مليون نسمة حتى عام 2030، ويبلغ 2.1 بليون نسمة عام 2050.

وسيزداد عدد سكان المناطق الحضرية؛ ففي عام 2018 كان 55 بالمئة من سكان العالم يعيشون في المناطق الحضرية، ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 68 بالمئة مع حلول سنة 2050.

وتشير الأمم المتحدة إلى أن الزيادة في نسبة التحضّر ستصنع أنماطا جديدة من المدن. وبحلول سنة 2030 من المتوقع أن يكون للعالم 43 مدينة كبرى تضم كل مدينة أكثر من 10 ملايين نسمة، معظمها في المناطق النامية. فالتجمّعات الحضرية الأسرع نموا هي في مدن يقل عدد سكانها عن مليون نسمة.

وتقع أغلب هذه المدن في آسيا وأفريقيا بينما يعيش شخص واحد من بين كل ثمانية أشخاص في 33 مدينة كبيرة في جميع أنحاء العالم، ويقيم ما يقرب من نصف سكان المناطق الحضرية في العالم في مستوطنات أصغر بكثير تقل عن 500 ألف نسمة. وستواجه المناطق الحضرية، التي تضم أكثر من 10 ملايين نسمة، تحديات للطاقة مختلفة عن المدن التي لا يتجاوز سكانها المليون نسمة. لذلك يجب أن يُفهم التحضر كمحرك رئيسي لطلب الطاقة.

إلى جانب النمو السكاني والتحضر، ستكون الصناعة محركا رئيسيا آخر لخدمات النقل. ووفقا لتوقعات إدارة معلومات الطاقة الدولية لسنة 2018، فإن الصناعة هي أكبر قطاع مستهلك للطاقة، وسوف تظل كذلك حتى سنة 2040.

خيارات النقل التي توفرها التكنولوجيا، هي وظائف بدوام كامل تساعد على انتشال الناس من الفقر ويمكن أن تشمل هذه الوظائف مجالات نقل الناس ونقل البضائع، وبإمكان التكنولوجيا أن تؤدي إلى تقليل الحواجز نظرا للراحة التي تقدمها إلى سكان المدن
خيارات النقل التي توفرها التكنولوجيا، هي وظائف بدوام كامل تساعد على انتشال الناس من الفقر ويمكن أن تشمل هذه الوظائف مجالات نقل الناس ونقل البضائع، وبإمكان التكنولوجيا أن تؤدي إلى تقليل الحواجز نظرا للراحة التي تقدمها إلى سكان المدن

وترتبط سلاسل التوريد، التي تشكل العمود الفقري لقاعدة التصنيع اليوم، من خلال شبكة خدمات للنقل تشمل الشاحنات، القطارات والسفن. وغالبا ما يتم نقل البضائع المصنعة على بعد آلاف الأميال قبل استهلاكها، ثم نقلها مرة أخرى لإعادة تدويرها أو التخلص منها، والمزيد من الصناعة يعني مزيدا من وسائل النقل أيضا.

ولأنه لا يوجد نمط وحيد للتنمية الحضرية ينعكس هذا التباين على معدل استخدام الطاقة في النقل بعدة دول، ويتساءل البعض عمّا إذا كانت المدن الناشئة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ستشبه أوروبا أو أميركا الشمالية. لكن أرض الواقع أكثر تعقيدا، فالاختلاف لا يقف مع بدايات هذه المدن.

وسبق أن أجرى باحثون دراسة، سنة 2009، شملت أربع مدن: بنغالور في الهند، ودار السلام في تنزانيا، وساو باولو في البرازيل، وشنغهاي في الصين.

وركّزت هذه الدراسة على التباين الكبير في أنماط التنقل. تراوح الاعتماد على النقل غير المزوَّد بمحرك (المشي وركوب الدراجات) من 18 بالمئة في بنغالور إلى 56 بالمئة في شنغهاي. وكانت نسبة استخدام السيارات 5 بالمئة في بنغالور و31 بالمئة في ساو باولو. أما نسبة استخدام وسائل النقل العام في هذه المدن الأربع تراوحت بين 30 بالمئة و47 بالمئة.

وتسمح مثل هذه الدراسات للباحثين ومصممي النماذج وصناع القرار بتقدير العالم المتنوع الذي يتعاملون معه. ومع المزيد من الدراسات، ستظهر بعض الأنماط التي ستسمح لهم بتعميم وتوليد أدوات سياسية محسنة لإدارة هذه الحاجة المتزايدة للتنقل.

ولأن النقل هو وسيلة لتحرك الناس والبضائع من مكان إلى آخر من المهم أن نفهم دوافع هذه الحركيّة وهو ما يتطلب رؤية واسعة لهذا القطاع لا تقتصر على دراسة التكلفة فقط، بل وتمتد إلى دراسة سبل الراحة وعامل الوقت ومتطلبات السلامة، بالإضافة إلى زوايا أخرى. حيث مازال ارتفاع المداخيل يرتبط مع ارتفاع الطلب على خدمات النقل. ففي الهند مثلا، ترتفع نسب ملكية السيارات مع ارتفاع الدخل الفردي. لكن النقل ليس مجرد استجابة لارتفاع المدخول، بل هو أيضا طريق لتحقيق ذلك. ففي البلدان المتقدمة، برزت خدمات المشاركة في السيارات كوسيلة لزيادة استخدام وسائل النقل المشتركة.

في المقابل في الاقتصادات الناشئة، فإن خيارات النقل التي توفرها التكنولوجيا، هي وظائف بدوام كامل تساعد على انتشال الناس من الفقر، ويمكن أن تتراوح هذه الوظائف من نقل الناس إلى نقل البضائع، فضلا عن تقديم الخدمات الحضرية مثل الغذاء، وهذه الخدمات ليست جديدة، لكن بإمكان التكنولوجيا أن تؤدي إلى تقليل الحواجز نظرا لزيادة الراحة التي تقدمها لسكان المدن.

ويؤكد البنك الدولي أن التكنولوجيا ستشكل العمود الفقري للتنقل في المستقبل. ويشير إلى أنه بحلول عام 2020، ستوجد أعداد ضخمة من الأجهزة النقالة والاتصالات في آسيا والمحيط الهادئ، والشرق الأوسط، وأفريقيا. فوجود المزيد من البيانات والاتصال سيؤدي إلى تنقل أكثر كفاءة وملاءمة، مما يتيح فرصا كبيرة للبلدان النامية لكي تتخطى التكنولوجيا الممارسات الحالية. فعلى سبيل المثال، فإن التقدم المحرز في مجال التحليلات، والتشغيل الآلي، و”إنترنت الأشياء” يبشر بالفعل بوعود كبيرة في الحد من الاستهلاك، بما في ذلك استهلاك الطاقة. وهناك جدل حاد حول ما إذا كان الطلب على النفط قد يصل إلى ذروته. وتشير إدارة معلومات الطاقة إلى أن الطلب على النفط سيستمر في النمو ليصل ذروته سنة 2040، بينما يتوقع آخرون أن يصل الطلب على النفط إلى أعلى مستوياته في وقت أقرب.

تؤكد هذه التوقعات جزئيا على دور السياسات النفطية التي تلعب دورا رئيسيا في الاقتصاد العالمي، فعلى النفط يقع عاتق إنتاج الطاقة سواء الطاقة الكهربائية أو مستخلصات النفط كالبنزين أو الديزل التي تسيّر المواصلات والسيارات وتمد الصناعة بالوقود وإنتاج الطاقة الكهربائية.

نيكوس تسافوس: يستطيع الدعم السياسي أن يحدث فرقا كبيرا في مستقبل قطاع النقل، ويعتبر أساسيا لتسهيل مهمة استيعاب العالم لمليارات السكان الحضريين من الطبقة الوسطى العالمية
نيكوس تسافوس: يستطيع الدعم السياسي أن يحدث فرقا كبيرا في مستقبل قطاع النقل، ويعتبر أساسيا لتسهيل مهمة استيعاب العالم لمليارات السكان الحضريين من الطبقة الوسطى العالمية

ونلاحظ تركيزا شديدا على السيارات الكهربائية، لكن المحادثة حول وسائل النقل هذه غالبا ما تخرج عن المناقشات حول المركبات غير البترولية، بالإضافة إلى الحافلات والشاحنات والقطارات والسفن.

وقد استعرضت الورشة دراسة مفصلة عن الكهرباء في قطاع النقل بالهند. إلى جانب حصة أكبر من توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة، وكانت نسبة انخفاض انبعاث ثاني أكسيد الكربون هائلة. على سبيل المثال، سوف تعمل العربات ذات العجلتين بحلول عام 2050 على خفض استهلاك الطاقة بنسبة 95 بالمئة وانبعاث ثاني أكسيد الكربون بنسبة 82 بالمئة. وبالنسبة للعربات ذات الثلاث عجلات، كانت الأرقام المعادلة 75 بالمئة و18 بالمئة في الحافلات، يمكن أن يكون استخدام الطاقة أقل بنسبة 66 بالمئة وانبعاث ثاني أكسيد الكربون بنسبة 45 بالمئة.

أجندة سياسية لتشكيل قطاع النقل

تؤكد هذه المدخرات الدور الذي يمكن أن تلعبه السياسة في تشكيل قطاع النقل بما أنه قطاع حيوي لنمو الاقتصاد، على سبيل المثال، خصص بنك التنمية الآسيوي 27 بالمئة من التزاماته في 2017 للنقل، وهو ثاني أعلى نسبة بعد الطاقة (بنسبة 31 بالمئة). وقد سلط المشاركون في ورشة العمل الضوء على العديد من المجالات الأخرى التي تحتاج إلى توجيه للسياسات في هذا القطاع.

كان التسعير من أهم هذه المجالات وقد شدد المناقشون في ورشة العمل على الحاجة إلى تسعير شفاف يمكن التنبؤ به، ويتضمن جميع العوامل الخارجية البيئية. إذ غالبا ما يتم تحديد الأسعار بشكل ضيق دون النظر إلى عدة عوامل.

يمكن أن تحدث هذه التكاليف الإضافية اختلافا كبيرا في كيفية تقييم المستهلك لخيارات النقل الخاصة به، بدلا من الطريقة التي قد ينظر بها مزود النقل إليها. قد تبدو تذكرة المترو معقولة إذا كان الشخص يعيش بجوار محطة، ولكن في الكثير من الأحيان، تكون المحطة على بعد مسافة قصيرة بسيارة الأجرة أو الحافلة، مما قد يؤدي إلى زيادة الكلفة الجملية، لذلك من المهم أن ننظر إلى الصورة بأكملها. وإذا أرادت الحكومات أن يستخدم الناس وسائل النقل العام، فعليهم التفكير في كيفية إقناعهم بذلك، عبر جعل هذه الوسائل خيارا مفضلا من خلال سياسة اجتماعية وسلوكية جذابة.

وناقش الخبراء أيضا عامل السلامة، سواء كان المستهلكون يستخدمون وسائل النقل العام أم لا، فإن ذلك يعتمد على مدى أمانها، ليس فقط على الركوب، بل حتى الإضاءة العامة، الأرصفة، وإشارات المرور.

كل هذه المكونات تمثل عناصر أساسية في توفير خدمات نقل آمنة. كما تطرقت إلى دور البيانات إذ لن يتم تمييز الأنماط الجديدة إلا إذا توفرت البيانات المحددة لها.

 لكن لا تتوفر هذه البيانات في بعض الأحيان وقد يصعب الوصول إليها في أحيان أخرى وقد تحتاج الحكومات إلى اتباع طريقة منهجيّة وشاملة في إدارة البيانات، وهناك حاجة إلى توازن بين التخطيط الجيد والمخاوف المتزايدة بشأن الخصوصية التي تنشأ من الزيادة الهائلة في كمية البيانات التي يولدها كل شخص يوميّا.

ويستنتج نيكوس تسافوس في تقريره بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أنّ جغرافيّة المدن تتغير، والنظام الاقتصادي يتغير أيضا وهذا ما يجب للحكومات ودول العالم النامي تحديدا أن تلتفت إليه، حيث هناك أنواع وقود جديدة متاحة لتشغيل الدراجات البخارية، والسيارات، والشاحنات، والقطارات، والسفن، والطائرات.

ويتابع “فهمنا لوسائل النقل في الاقتصادات الناشئة بدوره يتغير. نحن لسنا عند نقطة البداية، لكننا في خطوات أولى من هذه العملية التحويلية. ويختم بقوله “يمكن للدعم السياسي أن يحدث فرقا كبيرا في مستقبل قطاع النقل ويعتبر أساسيا لتسهيل استيعاب العالم لمليارات السكان الحضريين في الطبقة الوسطى العالمية وتوفير الفرص والبيئات المستدامة والمناسبة لهم”.

12