"شبابيك" مسرحية الآمال المحطمة على صخرة الواقع

يعتمد المسرح الجديد في مصر على جهود الشباب، من مؤلفين ومخرجين وممثلين، وينطلق من مشكلات هؤلاء الشباب ورفقاء جيلهم في واقع مليء بالصعوبات والإحباطات والأزمات. وهو ما شهدناه في العرض الشبابي الأخير بعنوان “شبابيك”.
القاهرة- نسج العرض المسرحي “شبابيك”، الذي شهدته القاهرة مؤخرا، صورة قاتمة لمعاناة الأجيال الجديدة في صندوق الحياة المظلم، مقترحا إمكانية إحداث ثقوب صغيرة يتسلل منها الضوء.
يتحرك المسرح الهادف في مسارين متوازيين، يجب ألا يطغى أحدهما على الآخر؛ الأول: هو التعبير الفني الجمالي، والثاني: هو مضمون الرسالة أو الجانب القيمي. ويصير العمل المسرحي منقوصا بلا شك في حالة طغيان أحد المسارين على الآخر، فالفنيات منفردة قد تقود إلى العبث والتهويم في الفراغ، والتوعية الإصلاحية وحدها تؤدي إلى خطب منبرية وشعاريات محنطة.
معان للشباك
حاول صنّاع العرض المسرحي قدر جهدهم الموازنة بين فنيات المسرح ودوره المجتمعي المنوط به في لحظة مأساوية تقتضي تكاتف الجميع لانتشال الغارقين في اليأس والعمل بجد من أجل استعادة الحياة.
قبل رفع الستار للإعلان عن بدء العرض على خشبة مسرح “تياترو آفاق” بالقاهرة، أوحى عنوان العرض بهاجس أولي داعب خيال المتلقي، يتعلق بماهية هذه الشبابيك، فهل هي نوافذ حقيقية في جدران صماء، أم ثقوب صغيرة في صندوق أسود، أم عيون وليدة للذات العمياء التائهة، تطل منها على داخلها وخارجها، آملة في اكتشافات جديدة؟
كشفت المسرحية على مدار أكثر من ساعة عن هذه المعاني كلها للشبابيك، وغيرها من الاحتمالات في عالم ضيق مُوجع يمكن تسميته بالحصار: البدني، والنفسي. والمسرحية، التي كتبها محمود جمال حديني وأخرجها عبدالخالق جمال، هي الشق الثاني من تجربة مبتكرة بعنوان “مسرح اليوم الكامل للعائلة”، وجرى تقديم عرضين متتاليين، الأول “مدينة الثلج” للأطفال والناشئة، والثاني “شبابيك” للشباب والكبار.
ماذا يريد أن يطرح مسرح العائلة؟
الحقيقة التي تجلت بمشاهدة العرض أنه يتجاوز المعنى القريب لإبراز مشكلات العائلة، خصوصا الشباب، وأزمات المجتمع وقضاياه، نحو ما هو أكثر إلحاحا ومأساوية في الوقت ذاته، وهو: إيجاد هذه العائلة، سواء بالعثور عليها، أو بتصنيعها من العدم، فمسرح العائلة ببساطة يتشكك في أن هناك عائلة لا تزال باقية متماسكة في واقع التشرذم والتفسّخ، ويقترح وسائله الخاصة للم الشمل، وتكوين الأسرة، واقتناص الحياة، و”أخذ الدنيا غلابا”، بتعبير أمير الشعراء أحمد شوقي.
على مستوى الرسالة وصل العرض إلى مراده بسهولة من أقصر الطرق، فالرموز والمؤشرات دالة ومعبّرة، ومن خلال المعاني المتعددة اللانهائية للشبابيك، يسرد كل مشارك في العرض رؤيته لما حوله، وما يعتمل بداخله، وبماذا يحلم، ومفهومه للتمرد والتحرر والتغيير، وكيف يمكن للنافذة أن تأتي بالطاقة، أو تكون وسيلة للخلاص من مشكلاته الفردية والأزمات العامة المحيطة؟
نثارات بصرية
على الجانب الفني، لجأ العرض إلى حيلة باعتبارها الأنسب للتعبير عن تفكك المجتمع، وذلك بأنه كاد يتخلى عن المفاهيم والمعطيات المسرحية الأساسية من حيث الأحداث المترابطة المتسلسلة والحبكة الدرامية والعلاقات بين الشخوص والربط بين المشاهد المتتالية وما إلى ذلك، مكتفيا بلقطات جزئية هزلية أو مناظر منفردة، فكل موقف مستقل بذاته، تظهر فيه مجموعة من الممثلين تتبادل الحوار القصير، ثم ينتهي الموقف ويتلاشى أثره تماما، ليبدأ موقف آخر، وهكذا.
هل أراد صّناع العرض تفكيك المجتمع في نثارات بصرية تبرز الشتات والانفصام والعزلة، ومن ثم يمكن القول إن هذا هو حال المجتمع، فكل مشهد مسرحي قصير يبدو منعزلا عن التالي، مثلما أن البشر جزر منعزلة عن بعضهم البعض؟
وفق هذا المنطق يمكن التماس قدر من العذر لمسرحية الآمال المحطمة على صخرة الواقع في لجوئها إلى هدم المعمار المسرحي ذاته، للإيحاء بأن كل الأبنية لم تعد قائمة على ظهر الكوكب المنهار.
في هذه المشاهد القصيرة المتتالية، إذا جاز اعتبار حصيلتها الكلية عملا مسرحيا واحدا، تكشفت مرامي الشبابيك، وتبلورت قسوة الواقع المعاكس. حكى الجميع عن نوافذهم وثقوبهم الخاصة، ولعبوا لعبة “زجاجة الأحلام”، حيث جلسوا في دائرة على الأرض، وراحوا يديرون الزجاجة، والشاب الذي تتوقف الزجاجة عن دورانها مشيرة إليه يبدأ في سرد أحلامه ومفهومه للشبّاك، وهكذا.
قدمت المسرحية استعراضا تفصيليّا للكثير من مشكلات الشباب الراهنة وأزمات المجتمع الخانقة، ومنها التطرف والتغييب والعزلة والإدمان والبطالة والعنوسة والخواء والانخراط في العوالم الافتراضية وفقدان القدرة على المواجهة وتحمل المسؤولية، بالإضافة إلى تقصّي ملامح المناخ العام من الكبت والتضييق والقهر وتقييد الحريات والغلاء الفاحش والانغلاق السياسي والفساد الإداري وغير ذلك من بواعث الأسى والوجع والقنوط.
اعتمدت مشاهد العرض على الفكاهة والمفارقة والقفشات الطريفة والارتجالات في مواقف سريعة خفيفة يجري تمريرها وكأنها تعرض على شاشة ضوئية وليس على خشبة مسرح، وبدت كل لقطة مخصصة للتركيز على قضية بعينها أكثر من سواها، كلقطة التحرش بإحدى الفتيات مثلا، التي انتهت بإدانة الضحية من جانب امرأة محجبة “لو إنتي محترمة ما كانش (لم يكن) حد عاكسك”، ولقطة “الشائعات” التي أبرزت مدى شطط وسائل التواصل الاجتماعي وتحولها إلى مصدر للفتن والأكاذيب والمعلومات المغلوطة.
فتحت المسرحية كذلك النوافذ المغلقة والسرية، كاشفة عن قُرب علاقة الفرد بذاته، وعلاقته بمن حوله، والسماء، والمعنى الحقيقي للإيمان والتدين، وتفاصيل الكثير من الأمراض النفسية، وفي قلب هذه الدوامات كلها، هناك بصيص نور يمكن أن يراوغ الجميع ليتسلل إلى الداخل، ولو من خلال “شيش” النافذة المغلقة (فتحات الخشب في الجدار).
استمد العرض حيويته من طاقات الشباب، الذين أدوا أدوارهم المتعددة المتنوعة في المشاهد المختلفة بخصوبة وحركية وتعبيرات جسدية خلاقة، وملأت الاستعراضات فضاء المسرح، متناسقة مع الموسيقى والكلمات المعبرة عن أجواء المسرحية، ومنها استعراض “شبابيك” الختامي، برفقة موسيقى أحمد منيب وكلمات مجدي نجيب وصوت المطرب محمد منير “شبابيك.. الدنيا كلها شبابيك”.
وتمكنت المسرحية من فتح نوافذ جادة حقيقية على جراح المجتمع، في محاولة لتضميدها وتطهيرها برسائل واعية، لكنها لم تقطع الشوط المأمول في طريق التجسّد المسرحي المحبوك المبني على رؤية شاملة تنتظم الوجود جماليا وهندسيا وتصويريا وبنائيا.
تصوير: محمد حسنين