مهرجان برلين وسمير فريد

إحساس عميق ينتابني بالحزن في برلين، هنا كان اللقاء الأخير لي مع الناقد والصديق والأخ الكبير سمير فريد الذي ترك علامات لا تمحى في تاريخ الثقافة السينمائية في العالم العربي.
الأربعاء 2019/02/13
ذكراه باقية في قلوبنا وفي كل ركن من أركان مهرجان برلين وغيره

وصلت الأربعاء الماضي إلى برلين، قبل يوم من بداية مهرجانها السينمائي الشهير، اعتدت الذهاب إلى برلين منذ سنوات رغم البرد والثلج والزحام على الأفلام، وهو عمل مرهق أصبح يثير عندي أسئلة وجودية مثل: لماذا أتحمل كل هذه المشاق، خاصة وقد شبعت كثيرا من السفر ومن الأفلام ولم يعد هناك “سحر الاكتشاف”؟

شاهدت آلافا مؤلفة من الأفلام وكتبت الآلاف من المقالات والدراسات والأبحاث عن جميع أنواع الأفلام خلال نحو 40 سنة، ودائما أحاول أن أرصد الجديد وأشعر بأنني أشارك في “اكتشافه”، لكن كثيرا ما تحضرني مقولة بيتر بوغدانوفيتش، الناقد الأميركي الذي تحوّل إلى الإخراج، أن “كل الأفلام العظيمة في تاريخ السينما قد صنعت وقضي الأمر”.

كما لو أنه كان يتنبأ بنهاية عصر السينما، فعنده وعند الكثيرين أيضا، أن السينما كانت قد بلغت أوج عظمتها كفن رفيع، عندما كانت في بداياتها، أي في مرحلة السينما الصامتة التي عرفت ظهور الكلاسيكيات الكبرى.

إحساس عميق ينتابني بالحزن في برلين، هنا كان اللقاء الأخير لي مع الناقد والصديق والأخ الكبير سمير فريد الذي ترك علامات لا تمحى في تاريخ الثقافة السينمائية في العالم العربي، كان المهرجان قد احتفى به في دورة 2017، وقد حضرت الحفل، وأتذكر أن سمير جاء من مصر خصيصا لحضور التكريم، فلم يكن يقدر على متابعة الأفلام، وقد تحامل على نفسه وكان يشكو خلال الحفل من عدم قدرته على الوقوف، وقد سألته قبيل أن نفترق عن حالته الصحية فطمأنني بقوله إن الورم الخبيث ينكمش، وأنه يستجيب للعلاج.

لهذا كانت صدمتي لا تطاق عندما تلقيت بعد أقل من شهرين خبر وفاة سمير فريد، ومازالت الصدمة تعيش معي، وكنت قد اعتدت أن ألتقيه في المهرجانات الكبرى، وكان مجرد وجوده يشعرني بالطمأنينة حتى بعد التباعد الذي وقع بيننا وبعد أن لعب “البعض” دورا كبيرا في إفساد علاقة سمير بأصدقائه القدامى، وخاصة من كانوا مثلي ممن “يجلبون المشاكل” ويستمرون في خدش وجه “المؤسسة”.

كانت هناك فترة اختلفت فيها بشدة مع سمير فريد بسبب ما كان يكتبه خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة من حياته، خاصة تعليقاته وآراءه السياسية، وكان قد تخلى عن كتابة النقد السينمائي بالمستوى الذي عهدناه في الماضي، وكنت أندهش من مجاملاته للمخرجين، حتى لو كانت أفلامهم رديئة، خاصة أن سمير كان يدرك جيدا الفرق بين الجيد والرديء، لكنه اختار أن يرضي الجميع ربما بعد أن تقدم به العمر وأدرك أن لا شيء يتغير في مصر.

لم يدرك الكثيرون أبدا طبيعة علاقتي بسمير فريد، فقد كانت علاقة حب دائمة رغم أي خلاف أو اختلاف، وكانت تربطني به ذكريات تمتد إلى فترة الشباب عندما كنت أتردد عليه في منزله حيث تعرفت على أسرته وولديه، الطفلين اللذين أصبحا رجلين كبيرين الآن، كان البعض يتصوّر أننا في حالة صراع، بينما كان غضبي عليه نتيجة حبي وتقديري الكبير له، وأساسا، رغبتي في أن يعود إلينا سمير كما كان عندما كنا نحلم معا بتغيير السينما والعالم.

أتذكر بوجه خاص حديثا دار بيننا في مهرجان فينيسيا 2015، كنت أجلس في نفس المقعد الذي اعتدت الجلوس فيه، مرّ هو عليّ وقال مداعبا “يجب أن تجعلهم يكتبون هذا المقعد باسمك”، قلت “ليفعلوا هذا بعد أن أموت”، نظر نحوي بحدة، وقال “أنت تحدثني عن الموت؟ ماذا أقول وأنا أكبرك كثيرا”، قلت “ليس كثيرا كما تعتقد”، وأضفت “أشعر حقا أنني لم يعد لديّ المزيد، فقد حققت في حياتي الشخصية كل ما كنت أرغب وأريد، وربما لم يعد لديّ المزيد، وربما لا نكون سوى تكرار لأنفسنا”.

صمت سمير وفكر لبرهة ثم سار من دون أن يعلق.

رحم الله سمير فريد، ستظل ذكراه باقية في قلوبنا وفي كل ركن من أركان مهرجان برلين وغيره.

16